2013/06/01

الفرعون وعمر بن الخطاب

هل السلطة مسؤولة عن مساوئ الشعب أم الشعب مسؤول عن مساوئ السلطة؟

وقفت في حيرة من أمري ولا أعرف كيف أبدأ بالإجابة على السؤال، فأتذكر قول النبي الكريم سيدنا محمد بأنه «كما تكونون يولى عليكم»، ووقتها يأتي في بالي أن الناس إذا كانت تتصف بالورع والتقوى في معاملاتها، فمن المؤكد أن حكامها سيكونون على شاكلتهم، يعرفون الحق ويتبعوه ويعاملون الشعب بما يرضي الله، أما إذا كان الشعب منافقًا يعشق الخداع و«التطبيل» للحاكم فمن باب أولى سيكون رأس الحكم على شاكلة شعبه ويعمل لهم من البحر «طحينة» ويغرقون فيه جميعًا ولو بعد حين.

لكنني مع كثرة البحث في الإجابة عن هذا السؤال وجدت نظري يقع على سطور نشرها كاتبنا فهمي هويدي في كتابه «المقالات المحظورة» الصادر عن «دار الشروق»، فيقول: «تمثل فكرة القدوة أحد المخارج المهمة من الأزمة، حيث يظل سلوك النخبة المسؤولة عن إدارة المجتمع هو النموذج الذي عادة ما يحتذى سلبًا كان أو إيجابًا».

ويضيف «هويدي» أن الفيلسوف الفرنسي «هلفيتيوس» عبر عن هذه الفكرة في القرن الثامن عشر، حين قال: «إن التفاعل بين المجتمع والسلطة ذو اتجاه واحد، فالشعب لا يؤثر في طبيعة السلطة، وإنما تؤثر السلطة في خصائص الشعب وأخلاقه».

ويوضح «هويدي» أن «هلفيتيوس» استنتج من ذلك أن «السلطة مسؤولة عن مساوئ الشعب كما أنها مسؤولة عن محاسنه، فالسلطة التي تقوم على الابتزاز ويتمتع أقطابها بامتيازات استثنائية، لابد أن تخلف جهازًا جشعًا ومرتشيًا، والسلطة التي تتعامل مع الشعب بطريقة فاشية، لابد أن يصبح جهازها فاشيًا، سواء بتشكيلاته أو بالنزعة التي تسيطر على أفراده.. والسلطة الفاسدة أو التي تخدع الناس وتكذب عليهم، تعطي الناس دروسًا يومية في الفساد».

ويكمل «هويدي» فيستشهد بما ذكره «ابن الأثير» في مؤلفه الكامل عن التاريخ، حيث يذكر ذلك المعنى بصورة أخرى، فيروي أن الخليفة الأموي، الوليد بن عبد الملك، كان صاحب بناء ويتشهر بما لديه من قصور وضياع، فكان الناس في عهده يلتقون بعضهم البعض للحديث عما لديهم من بناء، وكان سليمان بن عبد الملك من أصحاب الاهتمام بالطعام والنكاح، والناس كانوا آنذاك يسألون بعضهم عما لديهم من طعام ونكاح.

كما تحدث «ابن الأثير» عن خامس الخلفاء الراشدين، عمر بن عبد العزيز، فوصفه بأنه «صاحب عبادة» لما عُرف به من الورع والتقوى، فكان الناس يسألون بعضهم البعض في زمانه عما حفظوه من القرآن وعن عدد الأيام التي صامها كل منهم في الشهر؟

ولا يكتفي «هويدي» بذلك السرد، بل يضيف قول عمر بن الخطاب في وصاياه: «الرعية مؤدية للإمام ما أدى إلى الله، فإن رتع الإمام (أسرف وتنعم) رتعوا!».

ولك أن تعرف قصة أخرى مع سيدنا عمر، وهو الحاكم العادل الذي لو وجد واحد مثله لكان حال الشعب في أحسن حال، فيذكر «الطبري» أنه لما حمل جند المسلمين إلى سيدنا عمر سيف كسرى وجواهره بعد هزيمته أمام جيش المسلمين، قال أمير المؤمنين: «إن قومًا أدوا هذا لذوو أمانة»، فعقب على ذلك علي بن أبي طالب موجهًا كلامه إلى عمر قائلاً: «إنك عففت فعفت الرعية»، وكان علي بن أبي طالب هو القائل: «الناس بأمرائهم أشبه منهم بأبائهم في التمثل والتلقي والتقليد.

ويختتم «هويدي» ما سرده فيقول: «في مصر بالذات يبدو أن السلطة منذ الأزل لها تأثيرها البالغ في المجتمع، ولعل ذلك هو دأب المجتمعات النهرية دائمًا، كما يلاحظ الدكتور جمال حمدان، حتى الأنبياء الذين بعثوا إلى الأقوام عادة كما تشير نصوص القرآن الكريم، اختلف شأنهم في حالة مصر، فقد كان النبي موسى هو الوحيد من بين أنبياء إلى الله، الذي طلب منه أن يخاطب رأس السلطة، وقارئ القرآن لابد أن يلاحظ أن كل الآيات التي تحدثت عن النبي موسى: إما أنها أشارت بتكليفه بالتوجه إلى (فرعون) ومخاطبته مباشرة، وإما أنها تحدثت عن أنه أرسل إلى (فرعون وقومه)، أي أن فرعون ظل دائمًا الباب المرشح لهداية الناس وصلاح أمرهم».


أرجو إن شغلك سؤالي الذي كان في أول سطر أن تكون وجدت له إجابة، ونبدأ في التفكير للإجابة عن سؤال جديد، هل مصر تحتاج إلى عمر بن الخطاب فتنصلح معه أحوال الشعب أم تحتاج إلى النبي موسى كي يصلح اعوجاج الفرعون؟

2013/02/18

«الكوسة» لن تنفعك يا مرسي




(1)
إذا كنت ابنًا لرئيس الجمهورية فيحق لك أن تكون عالمًا ببواطن الأمور، وتعرف ما يدور داخل المؤسسات التابعة للدولة حتى وإن لم يكن لك فيها أي صاحب، فقط وظيفة والدك التي هي من المفترض أن تخدم الشعب ولا تمنحك المحاباة على غيرك تكون بوابة العبور كي تحصل على وظيفة من الدولة بغض النظر عن كفائتك أو الزمن الذي تخرجت فيه من كُليتك.. فقط يكون والدك اسمه محمد مرسي، وستنتقل من شخص يجلس على دكة البطالة إلى شخص ينعم بوظيفة حكومية تضمن لك الاستقرار.

عمر محمد مرسي أنهى دراسته الجامعية في التجارة، عام 2012، بتقدير جيد، ومنحه 13 مليون مصري وظيفة في الدولة، حيث انتخبوا والده وائتمنوه على ثورتهم النقية الشابة التي أطاحت بنظام مبارك «الديكتاتوري»، لكن مرسي رد الجميل لمن وقفوا بجانبه ضد مرشح النظام السابق، المرشح الخاسر الفريق أحمد شفيق، عن طريق منح ابنه وظيفة في الدولة، ولا يهم ما وعد به، الأهم هو تمكين أهله وجماعته وعشيرته في مفاصل الدولة، ولا مانع أيضًا من منح نجله «عمر» وظيفة يقول عنها وزير الطيران المدني، المهندس وائل المعداوي، إنه فاز بها عن طريق تقدمه إلى إعلان داخلي يخص الوظيفة و«فوجئت الشركة القابضة للمطارات بتقدم نجل الرئيس للوظيفة منذ شهرين».

(2)
شهران والبلد تشتعل عقب إعلان دستوري جعل الرئيس مرسي فوق كل السلطات ضاربًا عرض الحائط بالقوانين، التي يدعي احترامها لكنه يدهسها بـ«ترزية» من المستشارين يفصلون له ما يشاء من قرارات يتخذها ويتراجع عنها.. شهران والبلد تبحث عن دستور توافقي يلبي مطالب المصريين الذين استقبلوا بصمود بطش نظام مبارك في ميدان التحرير، فكانت الهدية للمصريين دستورًا لا يعبر عنهم، ويسير بمبدأ المغالبة والتأييد لمصالح جماعة «الإخوان» ومناصريها.. شهران والبلد تفقد شهداء ومصابين والرئيس ينعم بلا مبالاة ولا يهتز له جفن ولا تسيل الدموع على خديه.. فقط يبكي حزنًا على أهله وعشيرته وسائقه الذي تلقى طوبة في جسم سيارته الرئاسية المصفحة، لكن الباقي من شعبه مجرد مصريين لا حول ولهم ولا قوة طالموا لم يرتدوا عباءة الإخوان المسلمين.

شهران.. وعمر ابن الرئيس مرسي ينعم في بيته بكل السرور لضمان وظيفة حكومية علم بها عبر إعلان داخلي يفترض أن يلم به وفقط من يعمل داخل الشركة القابضة للمطارات، بينما هناك أمهات تعيش على حلم رؤية أبنائها المختطفين في المظاهرات الرافضة لـ«أخونة مصر»، أو إذا ساءت أحوالها تجلس كل ليل تترحم على من سقط في عهد رئيس يفترض أنه يناصر الثورة لكن سياساته تجعل البلاد «رايحة في ستين داهية».

(3)
«عمر» يعلم بالوظيفة بينما مرسي لا يعلم عن شعبه سوى الذين يهللون له خارج قصره فيخرج ليخاطبهم ويحدثهم عن «أبلج ولجلج»، ولا يتذكر شهداء أو مصابين أو حملة دكتوراة وماجستير مرت عليهم أعوام من كفاح حتى ينالوا أعلى الدرجات العلمية لكن الدولة لا تجد لهم أي وظيفة.

خلاص أنهت الدولة تعيين كل أبنائها ولم يتبق سوى نجل سعادة الرئيس مرسي، الذي يجب أن يحظى بوظيفة حكومية مثله مثل بقية أبناء الشعب.. لكن إذا ذهبنا لزيارة الواقع سنجد أن الرئيس مرسي لم يكلف خاطره لزيارة الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة للإطلاع على كيفية تعيين أوائل الخريجين في وظائف الدولة، سيجد طلابًا تم وضعهم في وظائف بعيدة عن تخصصاتهم العلمية، وسيجد أفرادًا لديهم قرارات تعيين لكنهم لم يتسلموا وظائفهم إلا بطلوع الروح، وسيجد أفرادًا كانت لهم وظائف في وزارات مثل البترول والعدل لكن «الواسطة والمحسوبية» لم تشفع لتعيينهم.. ستجد أفراد تخرجوا ودرسوا في كلية الإعلام، جامعة القاهرة، قسم الإذاعة والتليفزيون، ولديهم أعلى التقديرات العلمية ولم يحالفهم الحظ في التعيين داخل مبنى «ماسبيرو».. اللهم إلا إذا كانوا «إخوان» فربما هنا ستشع الكفاءة من عيونهم وستشفع تبعيتهم للمرشد في حصولهم على الوظيفة دون واسطة.

حدث مثلاً مع العبد لله عقب الثورة وبعد تخرجه في كلية الإعلام بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، في تخصص الإذاعة والتليفزيون أن منحته الدولة وظيفة في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، ولم يشفع له تفوقه وزملائه بدفعته في التعيين داخل مبنى «ماسبيرو» لأنهم بلا واسطة، ونفس الحال لدفعات سابقة.. هذا مجرد مثال أخفي الكثير من تفاصيله التي لا أريد التحدث عنها لشخصنة الموضوع لا سمح الله، فهناك الكثير ممن لا يجدون وظيفة بسبب «الكوسة»، وإن وجدوا فيكون ذلك بعيدًا عن مجالهم.

ومثال آخر يتمثل في عمالة مؤقتة تتخطى الآلاف من الإسكندرية إلى أسوان يحلمون بحلم التعيين والتثبيت في وظائف بالدولة، مع حلم يراودهم في التخلص من تقاضي 170 جنيهًا كل شهر حتى يحصلون على مبلغ محترم «يفتح بيت»، بينما «عمر» نجل الرئيس مرسي يضمن وظيفة فور تخرجه، وغيره لم ينعم بالتعيين منذ سنوات تعود إلى أيام غزو الكويت في بداية التسعينيات بالإضافة إلى لآلاف من حملة الماجستير والدكتوراة ينتظرون أن تكرمهم الدولة بوظيفة فتتم مطاردتهم عند بيت رئيس الوزراء، هشام قنديل.

(4)
آلاف يحملون شهادات علمية من ماجستير ودكتوراة وتقديرات تفوق كفاءة نجل مرسي لكنه استطاع أن يحصل على وظيفة، ولا عزاء لعلمهم وخبرتهم، فقط وبتقدير جيد وبكفاءة في الكمبيوتر واللغة الإنجليزية يصبح قاب قوسين أو أدنى ضمن المعينين داخل الشركة القابضة للمطارات.

أصبحت الدولة تعين من كان والده رئيسًا للجمهورية بينما ولاد الناس «الغلابة» الذين لا يحملون كارنيه الأهل والعشيرة، التي يعشقها مرسي لا وجود لهم.. فقط هم في ذمة الله وذاك أفضل من رئيس لا يطبق العدل ولا يبتعد عن الشبهات، ويتقن فن المراوغة ولا يطبق وعوده.. فقط يخدم أهله وعشيرته ويصحبهم بالسلامة إلى طريق دولة «الكوسة»، ويجعل حالك ينطق: «مرسي هو حسني»، و«جمال هو عمر».

وسواء استلم «عمر» الوظيفة أو أوقف أوراق تعيينه أو ربنا كرمه بوظيفة عند أونكل خيرت الشاطر أو عمو حسن مالك، فدولة «الكوسة» لن تنفعك يا مرسي.. دولة «الكوسة» التي تحتضن بها جماعتك وتلفظ بها بقية من حولك من المصريين ستنهي عهدك.. تمكينك لأهلك وجماعتك سينهي حكمك كما أنهى حكم الحزب الوطني الذي حاول السيطرة على مفاصل الدولة، فأسقطه الثوار بلا خوف.


2012/12/14

أحمد بهجت .. «ناقد الشعب» في «كلمتين وبس»



«لا أحد ينكر أن أخطاء كثيرة وقعت في تاريخ هذه الأمة، غير أن الإنصاف يقتضينا أن نذكر أن مسيرة الإنسان تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.. المأساة كلها أن هذه الأخطاء لم تجد من يتصدى لها بالرفض إلا أخيرًا، ولم تجد جوًا صحيًا يمكن فيه تدارك الخطأ قبل استفحاله.. كانت كلمة (لا) ملغاة تمامًا من قاموس الحياة المصرية».

هكذا تصدى «ناقد الشعب»، الكاتب الكبير أحمد بهجت، لأخطاء استفحلت في عصره لدى المصريين، وذلك في محاولة منه لتنبيههم «فأينما وجهت بصرك لم يقع إلا على خلل أو قصور أو إهمال أو حياد مأساوي تجاه الشرور»، كما يؤكد كاتبنا من خلال برنامجه الإذاعي الشهير «كلمتين وبس» أن «مصر لم تكن هكذا أبدًا».

«كلمتين وبس»

فقط 5 دقائق.. تستقبل خلالها أذن المصريين صوت الفنان القدير فؤاد المهندس، فيتحدث عبر أثير إذاعة البرنامج العام، وهو يحمل أفكار كاتبنا أحمد بهجت في برنامجه الإذاعي «كلمتين وبس»، والذي ينتقد «أسلوبًا معينًا من أساليب الحياة، سواء كان هذا الأسلوب فرديًا أو داخل الأجهزة الحكومية»، برؤية فلسفية اشتهر بها من خلال أسلوب شيق في كتابته الساخرة.

وتعود فكرة برنامج «كلمتين وبس» إلى المخرج الإذاعي يوسف حجازي، وما أن اتفق الطرفان حتى بدأ العمل، وسُجلت حلقات حين تستمع لها فتراها تنتقد أحوالنا الاجتماعية، كما يصب فيها كامل الغضب على «الروتين»، والذي تشتهر به مصالحنا وهيئاتنا الحكومية منذ قديم الأزل.
كاره الروتين الحكومي

ويرى أحمد بهجت، المولود في 15 نوفمبر 1932 بالقاهرة، أنه في «الدنيا كلها يطلق اصطلاح الروتين على النظام المحكم.. وفي مصر تعني كلمة الروتين تعذيب الإنسان لأخيه الإنسان.. وتعني نظامًا للعمل له كفاءة الحمار وسرعته.. وقد اجترأ على سباق مع الطائرات النفاثة».

رغم ذلك نجد أن «صانع البهجة» و«صاحب صندوق الدنيا» يصف «الروتين المصري» بـ«الصديق المتفاني»، لكنه يباغتك بدعوة تقول عليه: «الذي نرجو أن نتخلص منه».

وإذا استعرضت حلقات كاتبنا أحمد بهجت في برنامجه «كلمتين وبس»، ستجده يحدثك عن تفشي ظاهرة الرشوة، والتي يستحلها البعض مقابل إنجاز ما لك من حقوق، ويشير إلى أن «مشكلة الرشوة إنها بتعمل جو في الدنيا يخللي القيم تنتحر، ويجي وقت يبقى الغلط هو الصح والصح هو الغلط، يطلعوا الشبان الجداد مليانين أحلام طيبة وعندهم أخلاق ومثاليات، يبصوا عالدنيا يلاقوها ماشية بالرشوة.. ينكسر جواهم إحساسهم بالقيم وييأسوا، اليأس يكبر والدنيا تبقى جحيم».

حلقة أخرى تراه يحدثك من خلال صوت الفنان القدير، فؤاد المهندس، عن روتين المصالح الحكومية، القائم على إمضاءات لا تعد ولا تحصى، حتى تستوفي ما لك من مصلحة، فيقول: «كل الأوراق مستوفاه.. الكلمة دي عاملة زي الشبح في الحكومة، زي لعنة الفراعنة، مفيش في الحكومة حركة إلا بالورق.. أوراق راحة وأوراق جاية.. أوراق بتتمضي وأوراق حتتمضي.. أوراق ناقصة إمضا.. وأوراق زايدة إمضا.. نهر إمضاءات أعظم من نهر النيل».

كما يحدثك أحمد بهجت- الذي عمل صحفيًا بـ «أخبار اليوم» و«صباح الخير»، ثم انتقل إلى صحيفة الأهرام عام 1958- في حلقاته الإذاعية المتنوعة عن حسن الإدارة التي يتوجب على الجميع أن يدير بها مصر سواء في بيته أو عمله، كما ينتقد انتشار القمامة في الشوارع وعدم رصف الطرق وغياب الرقابة على الأسواق.

وتجد سخريته لاذعة منتقدة لغلاء المهور عند عقد الزواج، ويخاطب إنسانية من يستمع له حتى يتعامل برفق مع الحيوان.. باختصار ينبهك لأخطاء تراها من الأمور المعتادة في حياتك، لكنه يسعى إلى أن تغير من نفسك للأفضل، عاملاً بمبدأ أن «الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم».

غياب الحرية يقتل العقل
ويلاحظ أحمد بهجت أن سبب ما آلت إليه الأحوال في مصر لحالة من القصور الشديد لدى الجميع، ترتكز على أنه «لم يعد البقاء للأصلح»، كما «احتلت قيم النفاق مقاعد الصدق، وصار التظاهر بالعمل بديلاً عن العمل، حتى وصلنا إلى وضع صارت فيه الكلمة تغني عن الفعل، وكاد العقل المصري أن يتوقف عن العمل».

ويُنبهك «صانع البهجة»- في كتاباته التي تتسم بلمحة صوفية- إلى سبب توقف «العقل المصري» حيث يشير إلى أنه حين يفتقر الجو إلى الحرية «يتوقف العقل»، وينطفيء نور الحلم لدى الإنسان، و«ينتحر الطموح»، لكنه يرفع لك رايات الأمل بقلمه، فيكتب أنه «من نعمة الله على هذا الشعب أنه لا يخلو من الفضل وإن اشتدت الظلمات، ولا يعدم الرجال وإن أحدق الخطر».

نهاية «ناقد الشعب»
بعد صراع طويل مع المرض الذي حجب سطور «صاحب صندوق الدنيا» في أيامه الأخيرة، غيب الموت كاتبنا أحمد بهجت، وذلك في 11 ديسمبر من عام 2011، وترك لنا أعمالا متميزة من بينها كتب «بحار الحب عند الصوفية»، و«مذكرات زوج»، و«صائمون والله أعلم»، و«أنبياء الله»، و«مذكرات صائم»، و«حراس الحقيقة».. وشيع جثمانه من مسجد «السيدة نفيسة».

كان يعشق مصر ويتمنى لها الخير وقت الأزمات، وكأنه يستشعر ما تعيشه الآن، فينطق بقلم ساخر كاتبًا: «أم الدنيا النهارده في محنة، بتمر بأزمة.. عظمة أي شعب بتبان في وقت الشدة.. زي الصاحب ماتعرفوش إلا لما تقع أو تعيا أو تحتاج.. يبان الصديق ساعتها، الشعوب رخرة كده، كل محنة تمر عليها بتصهر جواها حاجات.. يطلع الزبد عالسطح.. تطلع الرغاوي اللي مافيهاش فايدة فوق، ويفضل الخير مترسب تحت.. وياما عندنا خير.. مصر عمرها ما تعدم رجاله بحق وحقيق، عمرها ما تعدم الفضل ولا العلم ولا الحق.. حتلاقي فيها ناس مستعدة تموت وتجوع وتتبهدل على اسم مصر».

2012/10/11

سفارة أحسن من قلادة !!





دخل إلى المكتب بعد أن عدل من وضع ملابسه، حتى يكون مهندمًا وعلى سنجة عشرة ضاربًا ابتسامة مصحوبة برسم علامات الهيبة والوقار في وجهه العريض قبل أن يحل ضيفًا بعد قليل في صحبة الرأس الكبيرة.

ألقى السلام على صاحب المكتب ثم جلس على الكرسي وبدأ النقاش بينهما.
صاحب المكتب: إزيك.. يا رب تكون في أحسن حال.
الضيف: الحمدلله يا فندم.

صاحب المكتب: والله نتمنى ده لكن أنت عارف المسؤولية صعبة.
الضيف: سيادتك قادر على تحمل المسؤولية وربنا يعينك على مشاغلنا.

صاحب المكتب: ربنا يسمع منك ويكرمنا.. لكن أديك شايف الناس زعلانة إزاى بعد حكاية «موقعة الجمل».
الضيف: هنعمل إيه يا فندم.. إحنا سعينا للحقيقة والعدل.. وحضرتك عارف القاضي حكمه بالقانون والورق اللي محطوط قدامه.

صاحب المكتب: وطبعا شوفت القاضي عمل إيه.. كل المتهمين براءة.. والناس قعدت بقى على النت تنشر فيديوهات المجزرة في حق ولادنا.. وأنت عارف إني وعدت الناس بحق الشهداء وإنه في رقبتي.
الضيف: مشكور يا فندم على اللفتة الطيبة دي.. ربنا يجعله في ميزان حسناتك.

صاحب المكتب: ما هو إزاي يبقى في ميزان حسناتي يا أخي، وكل اللي تحت إيدك مقدمين أدلة «أونطة»، وتخلي الناس المتهمة تطلع من القضية زي الشعرة من العجين.

الضيف: يا فندم.. الناس عملت اللي عليها.. لكن عايزك تطمن وتعرف كويس إننا مش هنام ولا هتغفل لنا عين لغاية ما نقدم مذكرة نطعن من خلالها على الحكم.. وتبقى وعود حضرتك وهيبتك وهيبة الدولة ماراحتش على الفاضي.

صاحب المكتب: وأنت فاكر إنك هتستنى؟!
الضيف: مش فاهم كلام حضرتك.. تقصد إيه يا فندم؟!

صاحب المكتب: أنت عارف إن الناس شايفاك من ريحة النظام السابق.. وشايفاك عقبة في سكة العدالة.. والثورة بسببك في القضايا هتروح في ستين داهية.. والشباب مش هيسكتوا على حق إخواتهم اللي وقعوا قصاد عنيهم في الميدان.. وهينزلوا مظاهرات ويطالبوا بإقالتك.

الضيف: فهمت.. يعني سيادتك يا فندم عايزني استقيل؟!
صاحب المكتب: والله يبقى ده جميل مش هتنساه الثورة.

الضيف: بس ده تدخل في سيادتنا واستقلالنا.. وحضرتك عارف كويس إنك مش ممكن تشيلني من مكاني.
صاحب المكتب: عارف ده كويس.. لكنك لازم تفتكر إنها مش دايمة إلا لوجه الله سبحانه وتعالى.. ولازم نمشي مع صوت الشارع.

الضيف: ونعم بالله يا فندم.. لكن ما تبقاش آخرة الواحد زي خيل الحكومة.. برصاصة ومع السلامة.. بالذمة ده يرضي سعادتك؟!

صاحب المكتب: ما أنت لو تصبر كده وتسمعني.. هتعرف إن شايل لك حاجة كويسة.
الضيف: حاجة كويسة؟! زي إيه يا فندم.. هتخليني وزير؟!

صاحب المكتب: لا سفير.. إيه رأيك بقى وتركب طيارة وتسافر وتبقى بعيد عن وجع الدماغ.. وتبقى مسؤول عن السفارة المصرية وتبقى الكلمة الأولى والأخيرة لك.

الضيف: سفير؟! والله ما كنت أتوقع حاجة زي دي؟!
صاحب المكتب: شوفت بقى.. تطلع تبقى سفير وتكون واجهتنا وتبقى حاجة جديدة بدل ما يبقى معاك قلادة.. تبقى معاك سفارة.

الضيف: وهكون سفير فين؟!
صاحب المكتب: الفاتيكان.. بلد حلوة محندقة وربنا يكرمك بقى هناك.

الضيف: بس سيادتك عارف الإيطالي بتاعي بعافية شوية والفرنساوي بتكلمه لبلب.

صاحب المكتب: النبي قال اطلبوا العلم ولو في الصين.. وأنت ابن حلال ومخك حلو هتتعلم وهتبقى لبلب في الإيطالي.. يللا اتوكل على الله سيب منصبك.. ووافق على منصب السفير.. ومعلش بقى هستأذنك عشان عندي مقابلات وارتباطات.. شرفت ونورت.

يخرج الضيف مندهشًا بينما صاحب المكتب ترتسم على وجهه ابتسامة، ثم يعدل وضع نظارته على أنفه، ويمسك بالتليفون المواجه له فيجيبه شخصًا على الطرف الثاني من السماعة، فيخبره بقوله: أيوه إزيك.. كلم محمد.. وخليهم يفتحوا التليفزيون.. قرارات مهمة هتطلع بعد شوية!!

2012/09/03

مبروك علينا «التأسيسية» *




عندما تدخل إلى قهوة بلدي، معروفة بتشغيلها الدائم لأغاني الزمن الجميل للعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، والست كوكب الشرق أم كلثوم، ثم يأتي لك صبي القهوة، فيسألك: تشرب إيه يا حضرة؟.. فترد عليه: واحد شاي سكر زيادة.

وعندما يأتي غيرك لنفس القهوة فيطلب الينسون، وثالث يطلب الشيشة، وآخر مزاجه في شاي بحليب، ستجد وقتها أن القهوة التي تذهب إليها راضيا مرضيا، هي نفسها التي يذهب إليها غيرك من البشر، ويطلبون ما يريدون، وما يرضي مزاجهم، وهي مكان واحد لكنها تجمع مختلف الأذواق.

نفس الشيء تستطيع أن تراه في تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور، فهي بأعضائها المنتخبين أو المشاركين فيها أو أيا كانت طريقة وجودهم فيها، ينبغي أن تلبي احتياجات الجميع دون أكثرية أو أقلية، ولكن عليها أن ترضي الجميع وتمثل كل المصريين من الشمال للجنوب، ومن الشرق للغرب، لا أن تمثل عليهم، بمؤتمرات وأحاديث من كلام الإنشاء الذي يدور في فلك سنمثل كل التيارات، وكل الأطياف، وكل الناس الحلوة، بينما تكون الحقيقة عند الإفاقة من الكلام المعسول تكون عكس ذلك.

الدستور هو كتاب الوطن الذي يجب أن يقرأه الجميع، ويبصمون عليه بكامل الرضا وبصوابعهم العشرة، دون أن يحقق مصلحة لطرف أو مكسب لفصيل معين، وعلى البقية الباقية أن تخبط رأسها في أقرب حيطة إذا لم يعجبها الأمر.

الدستور هو البيت الذي سنعيش فيه معا، سواء كان من يتعايش معنا له فكر متحرر الهوى أو ديني النزعة أو وسطي المزاج، بغض النظر عن رأي كل شخص فيما يعتنقه الآخر، لكن علينا أن نتفق على مواد لدستور يبرز هوية مصر، لا هوية تقول مدنية، ولا هوية تقول دينية، ولا هوية تقول عسكرية.

هوية مصر معروفة في شخصيتها، معروفة في قضاء الله وقدره، عندما يعم الخير على البلد، فلا يستهدف مسلم بعينه أو مسيحي بشخصه، وإنما يستهدف الجميع في السراء والضراء.

مصر هي الكلمة الأولى في دستورنا، وعلى المشاركين في كتابة الدستور ألا يكتبوا موادا تقسمنا إلى مدنيين وإسلاميين ومسيحيين، وآخرته كله يغني ظلموه بسبب تلك التقسيمات، ومع إنك أنت لو إسلامي أو حتى مسيحي، أو حتى تعبد ما لذ وطاب لك، ففي النهاية أنت مصري لك حقوق وعليك واجبات، وعلى الماسكين بزمام الجمعية التأسيسية للدستور يتذكروا أن القهوة مكان واحد نجلس فيه، لكن المزاج يختلف من فرد لآخر فيما يطلبه من مشاريب، وكذلك الدستور يجب أن يرضي الجميع، وعليه أن يرضي مصر، دون أغلبية متسلطة أو أقلية متشددة، وساعتها لو راعينا الكل في كتابتنا لدستور هويته مصرية، يبقى مبروك علينا التأسيسية.

*منشورة في 12 يونيو 2012

2012/08/28

«الولد الشقي» وحرية القلم



«تصوروا منذ نحو 60 عامًا، كتب الكاتب الساخر عمنا الكبير الشيخ عبد العزيز البشري مقالًا، اتهم فيه رئيس الوزراء وقتئذ، حضرة صاحب الدولة أحمد زيور باشا، اتهمه بالخيانة، وبأنه باع مصر للأعداء.

وسخر الشيخ عبد العزيز البشري من رئيس الوزراء قائلا: «وبالرغم من خيانة رئيس الوزراء، فإنني اعترض على محاكمته، لأن في هذا ظلم لرئيس الوزراء، لأنه ليس شخصًا واحدًا ولكنه عدة أشخاص، ولا يجوز محاسبة كتفه بما جناه رأسه، ولا يمكن محاكمة بطنه على جرم ارتكبه فخذه.. إلى آخر ما جاء في المقال.

وبالرغم من ذلك حكمت محكمة جنايات مصر برئاسة عبد العزيز باشا فهمي، ببراءة الشيخ عبد العزيز البشري، وجاء في حيثيات الحكم: أن الرجل العام، وعلى الأخص الذي يتولى مسؤولية عامة يكون عرضة للنقد، وبالأسلوب الذي يراه الكاتب مناسبًا كذلك.

ومنذ نحو 60 عامًا أيضًا كتب المرحوم الفنان بيرم التونسي، وبالخط العريض على صدور صحيفة المسلة، التي هي لا جريدة ولا مجلة، ملعون أبو المحافظ!

وتحت العنوان كتب يقول: بينما كنت أمشي في شارع الأزهر، إذ احتك بي نشال ولهف المحفظة من جيبي، فلما اكتشفت السرقة هتفت من أعماقي ملعون أبو المحافظ، والسبب أنني كنت قبل ذلك أضع نقودي في جيبي، ولكن أحد أصدقائي نصحني باقتناء محفظة لحفظ النقود، فإذا بالنشال اللعين ينشل النقود والمحفظة، وهذا هو السبب الذي جعلني أصرخ ملعون أبو المحافظ!

وقضت محكمة جنايات مصر ببراءة بيرم التونسي من تهمة سب المحافظ، لأنه لم يقصد سب محافظ القاهرة، ولكنه كان يسب المحافظ جمع محفظة، التي سرقها النشال ومعها نقوده!

ومنذ 40 عامًا على وجه التحديد كتب العبد لله مقالًا عن الفريق محمد حيدر باشا في مجلة (كلمة ونص)، والتي كان يرأس تحريرها الأستاذ مأمون الشناوي.

وبعد أن هاجمت حيدر باشا هجومًا شديدًا، ختمت المقال قائلا: ويعتبره الخبراء العسكريون واحدًا من ألمع جنرالات الحرب في العالم، وعلى رأسهم جنرال إليكتريك وجنرال موتورز، ومع ذلك حكمت المحكمة ببراءة العبد لله من تهمة القذف في حق القائد العام محمد حيدر باشا.

حدث هذا منذ 60 عامًا وحدث مثله منذ 40 عامًا، فما الذي يجري في مصر هذه الأيام؟».

كانت هذه كلمات الولد الشقي أستاذي محمود السعدني، رحمه الله، خلال مقالات نشرها في كتابه «أحلام العبد لله»، الصادر عن دار الهلال، ونظرًا لأن النسخة التي بحوزتي قديمة بعض الشيء لأن العبد لله من هواة شراء الكتب القديمة، وبالتحديد من سور الأزبكية، أو من عند أي بائع يفترش الأرض وعليها كتبه، فسعرها بالبلدي «حنين»، بعكس أسعار الكتب المرصوصة على أرفف المكتبات فهي تحرق جيبك بسعرها، لكن القراءة «ثمنها فيها»، ويمكن تحديد موعد صدور الكتاب في ثمانينات القرن الماضي، نظرًا لتساؤل «السعدني» عن حال الصحافة في الثمانينات بعد عرضه السابق.

ولو كان السعدني يعيش بيننا الآن ويرى أن مصر الثورة، يعيش فيها الصحفي وهو يتحسس رأسه، خوفًا من الإطاحة بسبب ما يكتبه قلمه، لكان شعر بالحسرة والندم.

بالطبع لا يقبل العبد لله حماقات من يدعي حرية التعبير والرأي بإثارة البلبة، فيما يكتبه أو يعرضه أو ينشره، لكنه يقبل أن يواجه ما يتم عرضه بالحجة والمنطق، لا بالمنع وخلق صورة لأبطال زائفين، يدعون احترام الكلمة وهم لا يحترمون قلمهم.


إذا نظرنا في حيثيات حكم «الجنايات» على رأي عمنا «البشري» في تخوينه لرئيس الوزراء، سنجد أنها تضع «الرجل العام» في مرمى النقد وبالأسلوب الذي يراه الكتاب من نقد بناء قد يلتزم به البعض، أو «بهدلة وتقطيع» ممن يعبرون عن رأيهم بالـ«خزعبلات»!!

حبس صاحب أي رأي على رأيه، هو هجوم على الحق في التعبير، ومن يحترم حرية التعبير عليه أن يحترم قلمه ولسانه ويتمتع بالمسؤولية المدققة لما ينشره.

والتهليل بإلغاء عقوبة الحبس الاحتياطي الصادرة من الرئيس مرسي في حق من يتصدى للعمل في النشر والصحافة مجرد «بالونة» يلعب بها من يقتنع بالـ«مبررات» دائمًا للموقف ونقيضه، ولكن التهليل هو عندما يكون الرئيس خادمًا للشعب، ومواطنًا مثل أي مواطن عادي في الشارع، لا يكمم الأفواه.

2012/03/23

بركة البابا

أكتب الآن عن ساعات قضيتها بحكم عملي فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لتغطية أحداث ما بعد وفاة البابا شنودة وجنازته التي خرجت فيها جموع غفيرة من أجل إلقاء نظرة الوداع على فقيدهم.

وفي وسط هذا الحزن والبكاء من الحاضرين على رحيل البابا حدثت مع العبد لله عدة مواقف خلال تردده على الكنيسة لا يستطيع أن ينساها.

فمع توجه أعداد كبيرة من المواطنين لرؤية البابا شنودة وهو يجلس على الكرسى الباباوي كان الدخول للكاتدرائية أمرا صعبا حيث تجمعات بشرية لا حصر لها تقف أمام بوابات لا تسمح باستقبال كل هذا العدد ثم أغلقت الأبواب جميعها فأصبح الشارع الذي تسير عليه السيارات يستقبل أقدام الواقفين على أمل الدخول وإلقاء نظرة الوداع على البابا.

الشارع ممتلىء عن آخره والشمس ساطعة فى السماء وفجأة بادرني من كان يقف بجواري قائلا: " ياه شايف الأعداد كبيرة إزاى وعايزة تدخل تشوف البابا وتاخد بركته"، و ما أن حاولت الرد عليه حتى منعني من الكلام وتحدث بنظرة كلها أسى قائلا: "بدل ما الناس واقفة كده وزحمة على الفاضى لازم نخليها تهتف للبابا ولا أنت إيه رأيك؟".

فقلت له: "اللى تشوفه".

فما أن سمع هذه الكلمة حتى أمسك بذراعي وقال لي: "خلاص احنا نهتف ونخلى الناس تقول ورانا ولازم تهتف معايا وساعتها كل الناس هتردد كلامنا ويبقى كله بينادى باسم البابا بس لازم تهتف معايا ولا ايه؟".

وحاولت ان أرد عليه، فقرر صاحبنا أن ينطق بدلا مني ويقول لى : "خلاص اتفقنا هنهتف ونقول.. أوعوا تقولوا البابا مات.. البابا شنودة فى السموات".

ثم بعد أن أعلن عن هتافه أخبرني أن حان الوقت كي ننادي بأعلى صوت حتى تردد تلك الجموع ذلك الهتاف فقلت له: "خلاص اتفضل اهتف"، فجاء رده سريعا "لأ أنت لازم تهتف معايا وتقول وساعتها الناس هتقول زينا".

حاولت أن أخفف من مسكة يده القابضة على ذراعي بقوة وقلت له:"خلاص انت اهتف والناس اللى حوالينا هتقول معاك وأنت مش لازم حد يقول معاك فى نفس واحد أنت بس توكل على الله والناس هتقول وياك زى ما أنت عايز".

سكت صاحبنا ثم قلب الموضوع فى دماغه فخاطب ثلاثة أشخاص كانوا بجوارنا حول موضوع الهتاف وبعد محادثة استمرت دقيقة ونصف ولم تأت بجديد فعاد مرة أخرى لذراعي فاتحا نفس الموضوع بأنه علينا الهتاف معا حتي يردد الناس من وراءنا ما نقول لأجل خاطر البابا.

وهنا كان الإصرار في عينيه وتليفوني المحمول في جيبي فأخرجته على الفور ورددت عليه وأخبرت من يحدثني أنني سأقابله عند محل عصير القصب لأن المكان الذي أقف فيه مزدحما أما عند "عصيرالقصب" فيمكن رؤيتك بسهولة، ثم ودعت صاحب الهتاف حتى أذهب لإحضار من كنت أتحدث معه وحمدت الله أن قصة الهتاف انتهت عند هذا الحد.

غابت الشمس وبدأ الهواء يضرب الوجوه بلسعات شديدة لا يمكن النجاة منها إلا بكوفية طويلة عريضة يمكنها تدفئة الخد والرقبة، وكل هذا والأعداد تزداد بينما يأتي رجلا وزوجته تسير بجواره والدموع على خديها وتنطق بصوت رفيع: "عايزة ادخل الكنيسة وأخد بركة البابا"، فيرد زوجها "الناس بيغمي عليها والدنيا زحمة وكمان فيه ناس وقعت ماتت وماحدش بيدخل".

وطبعا كأي ست مصرية متمرسة في فن الزن والطلبات، ظلت الزوجة تؤكد أن الناس تدخل رغم أن الأبواب مغلقة أمام أعيننا ولا دخول ولا خروج والرجل يستشهد بالعبد لله وعدد آخر من الواقفبن حتى فاض به الكيل، فزوجته لا تردد سوى الكلمات التالية "عايزة أدخل أخد بركة البابا ولازم تساعدني خصوصا إن الناس عمالة تدخل".

وكما قلت لكم إن الأبواب مغلقة تماما ولا أحد يستطيع الدخول لكن هذه السيدة تمكنت من تحقيق المعجزة حيث جعلت زوجها ينطق ويقسم أنه "والمصحف ماحدش بيدخل الكنيسة".

الناس حوله ينظرون إليه بعد القسم والزوج يحاول أن يلطف الجو فيقول: " والمسيح الحي ماحدش دخل الكنيسة وبركة العدرا ماحدش عارف يدخل الكنيسة" ثم انصرف مع زوجته.

في اليوم التالي دخل أحد زملاء العمل على مكان عملنا فسلم على الجميع ثم توجه ناحيتي مقدما لي واجب العزاء فى وفاة البابا شنودة والسبب كم الأخبار التي تم نشرها وعليها اسم كاتب هذه السطور حول وفاة البابا والحاضرين لإلقاء نظرة الوداع عليه.

وبعد أن تأكد صاحبنا في العمل أنني أنعم بنعمة الإسلام عندما لم يجد على يدي أي علامة تشير إلي ما كان يعتقده صافحني وانصرف.

أما في يوم الجنازة فقد أعطاني أحد الأفراد مجموعة من الأوراق مكتوب عليها ترانيم من الانجيل للصلاة على البابا وطلب مني أن أوزعها على من أقابله حتى ننال بركة البابا فما كان من زميلي المصور إلا أن اتجه بالأوراق ونحن خارج الكاتدرائية إلى شخص يرتدي الزى الأسود المميز لرجال الدين بالكنيسة طالبا منه أن يتولى توزيع هذه الأوراق ثم تركناه سريعا.

بالنسبة للشخص الذي حدثته وطلبت منه ان ينتظرني عند محل العصير فلا أدري إن كنتم تتذكرونه أم لا؟

بالمناسبة هو شخص من الخيال أسعفتني أفكاري لاستحضاره حتى لا نتورط في هتافات لها كل الاحترام عند من يعتقد بها وصدق من قال : "لكم دينكم ولى دين"، ورحم الله الأحياء والأموات.

2012/01/20

قناة وفيات




الهدوء يعم المكان الذى أجلس فيه و الأفكار تأتى و تذهب بينما العبد لله يفكر فى مصيره هل سيرزقه الله بعمل أم يظل يعمل على البحث عن عمل ؟

المهم أننى تخرجت و الحمدلله من كلية الإعلام و فى رأسى أحلام عديدة أراها لا تتحقق حتى الآن فى الواقع ولكننى أتمنى أن أكون كاتبا يحظى باحترام القراء و أسير على طريق أستاذى محمود عوض و أكون عاملا بمجال الصحافة التليفزيونية كما يقدمها الإعلامى البارع يسرى فودة و غيرها من الأحلام التى يراها كل شاب و يسعى فى عز حياته أن يعمل و يكد و يجتهد حتى يصل إليها.

لكن يبدو أن مجال الإعلام مصاب بعاهة الواسطة التى يجب أن تضعك على سلم العمل و عليك أنت الاجتهاد لأن المعارف و الأهل و الأحباب إذا ساعدوك فى الحصول على وظيفة فلن تستمر فيها إلا بكفاءتك.

الأهم أننى ذهبت للبحث هنا و هناك فالردود تنحصر فى ناحيتين .. أنت عارف الثورة و اللى حصل و مفيش تعيينات دلوقتى و يدوب كل محرر موجود ماسك ملف معين شغال عليه أو يرد عليك واحدا فيقول بكل صراحة و وضوح أن دخولك لهذا المكان الإعلامى يحتاج إلى واسطة و تكون جامدة.

هكذا أصبحت الوظيفة فى المجال الإعلامى تعانى من الثورة و هى بريئة من هذه الحجج الكاذبة لأن الثورة بريئة من أى عك فلا هى حكمت و لا قادت البلاد، أما فكرة الواسطة فهذا يعنى أننى على أن أبحث عنها بدلا من البحث عن وظيفة.

طيب هذا فى الأماكن التى عليها العين و يستقى منها الجميع أخباره سواء بالقراءة أو المشاهدة سواء فى مؤسسات قومية أو خاصة فما الذى يمنع أن تحاول وتكافح من خلال المؤسسات التى تحبو و تزحف وسط تلك المؤسسات الشهيرة أى تعمل بها إلى حين ميسرة، و هذا يعنى أن تميت نفسك فيها فهى لن تنفعك لأنها كانت نفعت نفسها و أصبحت قادرة على زيادة الطلب عليها أو بمعنى آخر ستجد مكانا يطلب منك العمل لكنه غير معروف وساعتها إن كان لك شغل فلا يقرأ لك أحد أو يشاهدك لأن المكان فى وسط الصحف والقنوات الشهيرة لا يمك ان تراه سوى فى إعلانات الجرائد المغلف بها ساندوتشات الفول والطعمية عندما يكتب مطلوب كذا وكذا.
.

قد ترى وجهة نظرى خطأ لكنها رؤيتى للموضوع تتلخص فى العمل داخل مؤسسة إعلامية تسمع عنها و تعرف مكانتها بين الناس خاصة و أن ترى البعض مثله مثلك لكنه يسبقك لأنه مسنود على شخص ما و لكننى أقنع نفسى أن الموضوع أرزاق و لدى إيمان أن الأرزاق على الله.


أشعر أن الملل قد يكون أصابك و ربما الإحباط لكن ما رأيك فى تعشيم نفسك أنك تمتلك القدرة و قادر على عمل مؤسسة إعلامية تشغلها كما تحب؟.

يعنى مثلا خلال زحمة الأفكار بدماغى سألت نفسى : ليه مفيش قنوات للوفيات عندنا؟

بالطبع تعرف صحيفة الأهرام و إعلانات الوفيات بها و تراها تذكر الأهل و الأحباب و تدعو بالرحمة و المغفرة للمتوفى و منها جانب من الفشخرة و المنظرة للتدليل على قدرة من يعرفون المتوفى أنهم قادرون على دفع ثمن إعلان الوفيات داخل الأهرام وصفحاتها.

طيب يا سيدى انتشرت قنوات للرقص على النايل سات تتمايل فيها القادرات على هز الوسط طوال 24 ساعة و بدلا من الذهاب لكباريه فى شارع الهرم تستطيع أن تأتى لك على الشاشة داخل منزلك و يتجمع المعارف و الحبايب أمامها و معهم لب و سودانى و حاجة ساقعة لزوم الانبساط و النعنشة.

إذن نعمل قنوات للوفيات نذيع فيها تقارير مصورة عن الميت و صوره و هو فى الحضانة و صورته داخل استمارة الثانوية العامة و صورته الأبيض و الأسود و هو بالجامعة ثم وقوفه إلى جانب عروسته التى أنهت حبه بختم الزواج و هو واقف مرتدى بدلة سوداء كدليل على الحياة القادمة ثم نصور أهله مع موسيقى حزينة و يبقى الناس عرفت المتوفى و عملت حاجة جديدة.


و لما مات عم حسن راحت زوجته ربة الصون و العفاف تعمل إعلان فى القناة الخاصة بالوفيات و دعمت العاملين بالقناة بصور و أوراق خاصة بحياة زوجها و تم التصوير معها و مع أولادها مع إذاعة بث حى و مباشر لمراسم الجنازة .. ما هو ساعتها القناة ستجعل الشخص العادى مثل الحاكم حيث تكون مراسم تودعيهما للدنيا منقولة على الهواء و بالنسبة لمكسب الإعلانات فهو مضمون بعمل إعلانات عن خدمات الحانوتية و أشهر بائعى البن.

و يبقى ضربنا كل العصافير نقلنا حياة المتوفى و يمكن نستفيد و نتعظ منها و عملنا حساب الحانوتى و لزوم القهوة و المشاريب وقت العزاء.

و اهتمت زوجة حسن بمراجعة هذه التفاصيل إلى أن جاءت فترة عرض حياة زوجها المغفور له على قناة الوفيات و تم التنويه أنه ستتم إذاعة تقريرين عن حياته.

و تعجبت زوجة عم حسن فهى حجزت عرض تقرير واحد عن زوجها لكنها رأت العرض الأول فوجدت أن عم حسن لم يكن هو عم حسن فقد ظهر فى صورة الفرح مع واحدة ثانية غير أم العيال.

لقد اكتشفت أم العيال أنه تزوج عليها بعد مراجعة التفاصيل فى القناة و قامت الزوجة الثانية بحجز تقرير و إعلان عن عم حسن و من حبها لها سبقتها فى عرض التقرير.

وقتها حزنت الزوجة الأولى و لا ندرى هل حزنها بسبب المبلغ المدفوع فى عمل إعلانات عن وفاة زوجها أم لأنه خان العشرة الطويلة بزواج من واحدة تقترب من سن بناته؟

ما علينا المهم إنه فى وسط التفكير فى عمل قناة وفيات قررت التخلى عن الفكرة حتى لا تكون القناة سببا فى كشف سر زواج الميت الذى حرص على  إخفاءه طوال حياته.