2012/03/23

بركة البابا

أكتب الآن عن ساعات قضيتها بحكم عملي فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية لتغطية أحداث ما بعد وفاة البابا شنودة وجنازته التي خرجت فيها جموع غفيرة من أجل إلقاء نظرة الوداع على فقيدهم.

وفي وسط هذا الحزن والبكاء من الحاضرين على رحيل البابا حدثت مع العبد لله عدة مواقف خلال تردده على الكنيسة لا يستطيع أن ينساها.

فمع توجه أعداد كبيرة من المواطنين لرؤية البابا شنودة وهو يجلس على الكرسى الباباوي كان الدخول للكاتدرائية أمرا صعبا حيث تجمعات بشرية لا حصر لها تقف أمام بوابات لا تسمح باستقبال كل هذا العدد ثم أغلقت الأبواب جميعها فأصبح الشارع الذي تسير عليه السيارات يستقبل أقدام الواقفين على أمل الدخول وإلقاء نظرة الوداع على البابا.

الشارع ممتلىء عن آخره والشمس ساطعة فى السماء وفجأة بادرني من كان يقف بجواري قائلا: " ياه شايف الأعداد كبيرة إزاى وعايزة تدخل تشوف البابا وتاخد بركته"، و ما أن حاولت الرد عليه حتى منعني من الكلام وتحدث بنظرة كلها أسى قائلا: "بدل ما الناس واقفة كده وزحمة على الفاضى لازم نخليها تهتف للبابا ولا أنت إيه رأيك؟".

فقلت له: "اللى تشوفه".

فما أن سمع هذه الكلمة حتى أمسك بذراعي وقال لي: "خلاص احنا نهتف ونخلى الناس تقول ورانا ولازم تهتف معايا وساعتها كل الناس هتردد كلامنا ويبقى كله بينادى باسم البابا بس لازم تهتف معايا ولا ايه؟".

وحاولت ان أرد عليه، فقرر صاحبنا أن ينطق بدلا مني ويقول لى : "خلاص اتفقنا هنهتف ونقول.. أوعوا تقولوا البابا مات.. البابا شنودة فى السموات".

ثم بعد أن أعلن عن هتافه أخبرني أن حان الوقت كي ننادي بأعلى صوت حتى تردد تلك الجموع ذلك الهتاف فقلت له: "خلاص اتفضل اهتف"، فجاء رده سريعا "لأ أنت لازم تهتف معايا وتقول وساعتها الناس هتقول زينا".

حاولت أن أخفف من مسكة يده القابضة على ذراعي بقوة وقلت له:"خلاص انت اهتف والناس اللى حوالينا هتقول معاك وأنت مش لازم حد يقول معاك فى نفس واحد أنت بس توكل على الله والناس هتقول وياك زى ما أنت عايز".

سكت صاحبنا ثم قلب الموضوع فى دماغه فخاطب ثلاثة أشخاص كانوا بجوارنا حول موضوع الهتاف وبعد محادثة استمرت دقيقة ونصف ولم تأت بجديد فعاد مرة أخرى لذراعي فاتحا نفس الموضوع بأنه علينا الهتاف معا حتي يردد الناس من وراءنا ما نقول لأجل خاطر البابا.

وهنا كان الإصرار في عينيه وتليفوني المحمول في جيبي فأخرجته على الفور ورددت عليه وأخبرت من يحدثني أنني سأقابله عند محل عصير القصب لأن المكان الذي أقف فيه مزدحما أما عند "عصيرالقصب" فيمكن رؤيتك بسهولة، ثم ودعت صاحب الهتاف حتى أذهب لإحضار من كنت أتحدث معه وحمدت الله أن قصة الهتاف انتهت عند هذا الحد.

غابت الشمس وبدأ الهواء يضرب الوجوه بلسعات شديدة لا يمكن النجاة منها إلا بكوفية طويلة عريضة يمكنها تدفئة الخد والرقبة، وكل هذا والأعداد تزداد بينما يأتي رجلا وزوجته تسير بجواره والدموع على خديها وتنطق بصوت رفيع: "عايزة ادخل الكنيسة وأخد بركة البابا"، فيرد زوجها "الناس بيغمي عليها والدنيا زحمة وكمان فيه ناس وقعت ماتت وماحدش بيدخل".

وطبعا كأي ست مصرية متمرسة في فن الزن والطلبات، ظلت الزوجة تؤكد أن الناس تدخل رغم أن الأبواب مغلقة أمام أعيننا ولا دخول ولا خروج والرجل يستشهد بالعبد لله وعدد آخر من الواقفبن حتى فاض به الكيل، فزوجته لا تردد سوى الكلمات التالية "عايزة أدخل أخد بركة البابا ولازم تساعدني خصوصا إن الناس عمالة تدخل".

وكما قلت لكم إن الأبواب مغلقة تماما ولا أحد يستطيع الدخول لكن هذه السيدة تمكنت من تحقيق المعجزة حيث جعلت زوجها ينطق ويقسم أنه "والمصحف ماحدش بيدخل الكنيسة".

الناس حوله ينظرون إليه بعد القسم والزوج يحاول أن يلطف الجو فيقول: " والمسيح الحي ماحدش دخل الكنيسة وبركة العدرا ماحدش عارف يدخل الكنيسة" ثم انصرف مع زوجته.

في اليوم التالي دخل أحد زملاء العمل على مكان عملنا فسلم على الجميع ثم توجه ناحيتي مقدما لي واجب العزاء فى وفاة البابا شنودة والسبب كم الأخبار التي تم نشرها وعليها اسم كاتب هذه السطور حول وفاة البابا والحاضرين لإلقاء نظرة الوداع عليه.

وبعد أن تأكد صاحبنا في العمل أنني أنعم بنعمة الإسلام عندما لم يجد على يدي أي علامة تشير إلي ما كان يعتقده صافحني وانصرف.

أما في يوم الجنازة فقد أعطاني أحد الأفراد مجموعة من الأوراق مكتوب عليها ترانيم من الانجيل للصلاة على البابا وطلب مني أن أوزعها على من أقابله حتى ننال بركة البابا فما كان من زميلي المصور إلا أن اتجه بالأوراق ونحن خارج الكاتدرائية إلى شخص يرتدي الزى الأسود المميز لرجال الدين بالكنيسة طالبا منه أن يتولى توزيع هذه الأوراق ثم تركناه سريعا.

بالنسبة للشخص الذي حدثته وطلبت منه ان ينتظرني عند محل العصير فلا أدري إن كنتم تتذكرونه أم لا؟

بالمناسبة هو شخص من الخيال أسعفتني أفكاري لاستحضاره حتى لا نتورط في هتافات لها كل الاحترام عند من يعتقد بها وصدق من قال : "لكم دينكم ولى دين"، ورحم الله الأحياء والأموات.