2012/01/20

قناة وفيات




الهدوء يعم المكان الذى أجلس فيه و الأفكار تأتى و تذهب بينما العبد لله يفكر فى مصيره هل سيرزقه الله بعمل أم يظل يعمل على البحث عن عمل ؟

المهم أننى تخرجت و الحمدلله من كلية الإعلام و فى رأسى أحلام عديدة أراها لا تتحقق حتى الآن فى الواقع ولكننى أتمنى أن أكون كاتبا يحظى باحترام القراء و أسير على طريق أستاذى محمود عوض و أكون عاملا بمجال الصحافة التليفزيونية كما يقدمها الإعلامى البارع يسرى فودة و غيرها من الأحلام التى يراها كل شاب و يسعى فى عز حياته أن يعمل و يكد و يجتهد حتى يصل إليها.

لكن يبدو أن مجال الإعلام مصاب بعاهة الواسطة التى يجب أن تضعك على سلم العمل و عليك أنت الاجتهاد لأن المعارف و الأهل و الأحباب إذا ساعدوك فى الحصول على وظيفة فلن تستمر فيها إلا بكفاءتك.

الأهم أننى ذهبت للبحث هنا و هناك فالردود تنحصر فى ناحيتين .. أنت عارف الثورة و اللى حصل و مفيش تعيينات دلوقتى و يدوب كل محرر موجود ماسك ملف معين شغال عليه أو يرد عليك واحدا فيقول بكل صراحة و وضوح أن دخولك لهذا المكان الإعلامى يحتاج إلى واسطة و تكون جامدة.

هكذا أصبحت الوظيفة فى المجال الإعلامى تعانى من الثورة و هى بريئة من هذه الحجج الكاذبة لأن الثورة بريئة من أى عك فلا هى حكمت و لا قادت البلاد، أما فكرة الواسطة فهذا يعنى أننى على أن أبحث عنها بدلا من البحث عن وظيفة.

طيب هذا فى الأماكن التى عليها العين و يستقى منها الجميع أخباره سواء بالقراءة أو المشاهدة سواء فى مؤسسات قومية أو خاصة فما الذى يمنع أن تحاول وتكافح من خلال المؤسسات التى تحبو و تزحف وسط تلك المؤسسات الشهيرة أى تعمل بها إلى حين ميسرة، و هذا يعنى أن تميت نفسك فيها فهى لن تنفعك لأنها كانت نفعت نفسها و أصبحت قادرة على زيادة الطلب عليها أو بمعنى آخر ستجد مكانا يطلب منك العمل لكنه غير معروف وساعتها إن كان لك شغل فلا يقرأ لك أحد أو يشاهدك لأن المكان فى وسط الصحف والقنوات الشهيرة لا يمك ان تراه سوى فى إعلانات الجرائد المغلف بها ساندوتشات الفول والطعمية عندما يكتب مطلوب كذا وكذا.
.

قد ترى وجهة نظرى خطأ لكنها رؤيتى للموضوع تتلخص فى العمل داخل مؤسسة إعلامية تسمع عنها و تعرف مكانتها بين الناس خاصة و أن ترى البعض مثله مثلك لكنه يسبقك لأنه مسنود على شخص ما و لكننى أقنع نفسى أن الموضوع أرزاق و لدى إيمان أن الأرزاق على الله.


أشعر أن الملل قد يكون أصابك و ربما الإحباط لكن ما رأيك فى تعشيم نفسك أنك تمتلك القدرة و قادر على عمل مؤسسة إعلامية تشغلها كما تحب؟.

يعنى مثلا خلال زحمة الأفكار بدماغى سألت نفسى : ليه مفيش قنوات للوفيات عندنا؟

بالطبع تعرف صحيفة الأهرام و إعلانات الوفيات بها و تراها تذكر الأهل و الأحباب و تدعو بالرحمة و المغفرة للمتوفى و منها جانب من الفشخرة و المنظرة للتدليل على قدرة من يعرفون المتوفى أنهم قادرون على دفع ثمن إعلان الوفيات داخل الأهرام وصفحاتها.

طيب يا سيدى انتشرت قنوات للرقص على النايل سات تتمايل فيها القادرات على هز الوسط طوال 24 ساعة و بدلا من الذهاب لكباريه فى شارع الهرم تستطيع أن تأتى لك على الشاشة داخل منزلك و يتجمع المعارف و الحبايب أمامها و معهم لب و سودانى و حاجة ساقعة لزوم الانبساط و النعنشة.

إذن نعمل قنوات للوفيات نذيع فيها تقارير مصورة عن الميت و صوره و هو فى الحضانة و صورته داخل استمارة الثانوية العامة و صورته الأبيض و الأسود و هو بالجامعة ثم وقوفه إلى جانب عروسته التى أنهت حبه بختم الزواج و هو واقف مرتدى بدلة سوداء كدليل على الحياة القادمة ثم نصور أهله مع موسيقى حزينة و يبقى الناس عرفت المتوفى و عملت حاجة جديدة.


و لما مات عم حسن راحت زوجته ربة الصون و العفاف تعمل إعلان فى القناة الخاصة بالوفيات و دعمت العاملين بالقناة بصور و أوراق خاصة بحياة زوجها و تم التصوير معها و مع أولادها مع إذاعة بث حى و مباشر لمراسم الجنازة .. ما هو ساعتها القناة ستجعل الشخص العادى مثل الحاكم حيث تكون مراسم تودعيهما للدنيا منقولة على الهواء و بالنسبة لمكسب الإعلانات فهو مضمون بعمل إعلانات عن خدمات الحانوتية و أشهر بائعى البن.

و يبقى ضربنا كل العصافير نقلنا حياة المتوفى و يمكن نستفيد و نتعظ منها و عملنا حساب الحانوتى و لزوم القهوة و المشاريب وقت العزاء.

و اهتمت زوجة حسن بمراجعة هذه التفاصيل إلى أن جاءت فترة عرض حياة زوجها المغفور له على قناة الوفيات و تم التنويه أنه ستتم إذاعة تقريرين عن حياته.

و تعجبت زوجة عم حسن فهى حجزت عرض تقرير واحد عن زوجها لكنها رأت العرض الأول فوجدت أن عم حسن لم يكن هو عم حسن فقد ظهر فى صورة الفرح مع واحدة ثانية غير أم العيال.

لقد اكتشفت أم العيال أنه تزوج عليها بعد مراجعة التفاصيل فى القناة و قامت الزوجة الثانية بحجز تقرير و إعلان عن عم حسن و من حبها لها سبقتها فى عرض التقرير.

وقتها حزنت الزوجة الأولى و لا ندرى هل حزنها بسبب المبلغ المدفوع فى عمل إعلانات عن وفاة زوجها أم لأنه خان العشرة الطويلة بزواج من واحدة تقترب من سن بناته؟

ما علينا المهم إنه فى وسط التفكير فى عمل قناة وفيات قررت التخلى عن الفكرة حتى لا تكون القناة سببا فى كشف سر زواج الميت الذى حرص على  إخفاءه طوال حياته.

2012/01/14

لا بكاء على البرادعى




جاء غاندى ذات يوم قائلا :"إذا واجهت شرا فلن أقف مكتوفا أقلب كفا على كف معبرا عن أسف لا أشعر به كى أخلص بذلك نفسى من تأنيب ضميرى بل إنى أعد نفسى مسئولا عما فى العالم من مساوىء إذا أنا لم أحاربها".

الكل يعرف أن غاندى كان يمتاز بسلمية المواجهة مع خصومه دون شعارات ولكن بأفعال تلقى احتراما من الجميع.

وسبب المرور على مقولة غاندى هنا تعود إلى قيام الدكتور محمد البرادعى بإعلانه عن الانسحاب من سباق الحصول على منصب أول رئيس لمصر بعد ثورة الله أعلم إن كانت هى نجحت فى أهدافها أم لا تزال تسعى لتحقيق هذه الأهداف حتى الآن؟

هذا السؤال يجيب عنه كل من يحب البلد بجد دون شعارات حنجورية من التى تلهب حماس السامعين وتنتهى بالتصفيق الحاد بينما الفعل على أرض الشارع يكون غائبا.

نعم قمنا بثورة أطاحت كما يبدو برأس نظام لكن فى حاجة لمزيد من الوقت لتغيير بقايا النظام حتى تأخذ الثورة وقتها ختم النجاح وتقام لها الاحتفاليات والليالى الملاح.

الثورة لا تزال فى الشارع يصنعها الشعب إذا اتحد نجحت وإذا خسرت التعاطف منه فشلت فهى لم تعرف فكرة الزعيم أو القائد الملهم لكنها كانت حصيلة جهود كل من شاركوا فيها بحب وتضحية وسواء كانوا فى ميادين التحرير المصرية أو تعاطفوا معها بالكلمة الطيبة بعكس غيرهم الذين فضلوا الاستبداد والسير بالجمال لخنق حرية المصريين لكن بركة ربنا وشجاعة "المصريين الأصليين" نجحت فى صد ألاعيبهم.

هذه المقدمة الطويلة العريضة أقصد منها أن الثورة إذا أرادت تغيير مصر إلى الأفضل وعلى قلبها دقات تردد: سلمية..سلمية، ساعتها ستنجح دون انتظار لشخص ما حتى ولو كان الدكتور البرادعى.

البرادعي له كل الاحترام فيما قرره وما فعله يحتاج لوقفة مع أنفسنا حتي نستكشف الحقيقة دون سرعة في الحكم ودون بطء في اتخاذ القرار.

البعض يرى البرادعى أنه أشعل شرارة التغيير ضد نظام مبارك بصورة جمعت الملايين على رفض فكرة التوريث واستيقظ المصريون وقتها على فكرة أن الحاكم خادم ونجح الشباب من خلال حملات طرق الأبواب وتعريف الأفراد بأفكار البرادعى وجمع التوقيعات المؤيدة له فى صناعة حالة من الإيمان بحرية مصر وأن الفرحة من أجلها لا تقف على هدف لـ"جدو" يحرزه مع كل تغيير وإنما التغيير يبدأ عندما يشعر المصرى بكرامته داخل وطنه ويكون حاصلا على حقوقه البسيطة من مأكل ومسكن وكساء وفرصة عمل والتى أصبحت جميعها من الأحلام للكثيرين يسعون لها لكن الواقع يصدمهم بصفحة سوداء لكن فكرة الأمل عندما توحد الجميع حولها استطاعت أن تعطى لمصر أجمل صورة خلال الـ18 يوم فى ميدان التحرير.

البرادعى انسحب من انتخابات الرئاسة لأنه يرفض الوضع الراهن وفى نفس الوقت يعلن عن استمراره فى خدمة البلاد وهذه هى القضية "خدمة مصر".

خدمة مصر متروكة للجميع وعلى الكل خدمتها بطريقته حسب المتاح لديه ولا تتوقف الحياة عند شخص له الحق فى تقرير مصيره كما فعل الدكتور البرادعى الذى يرى أن بناء مصر لن يتم عبر المناصب الرسمية بما فيها منصب رئيس الجمهورية.

البرادعى صدمنى بانسحابه من سباق الرئاسة فهو إذا كنا سمعنا عن تنحى عبد الناصر وخروج الشعب لتأييده والهتاف من أجله بعد وكسة 67 فهذا ليس معناه أن يقوم بالانسحاب حتى يرى بعينيه تأييد الناس له وربما لم تأت هذه الفكرة بخاطره وإلا فى هذه الحالة تكون مصر فى نظر البعض صالة قمار يراهن فيها على الورق الكسبان.
لكننى بعد انسحاب البرادعى أتمنى له أن يحارب على طريقة غاندى "السلمية" حتى تتحقق العدالة والكرامة والحرية لمصر وتنتهى المساوىء كلها وهذا لا يعنى أنه وحده هو القادر المقتدر وإنما إذا فعل ذلك ومعه من يؤيده زائد جموع المصريين الذين يخدمون البلد بطريقتهم بالإضافة لوعى الشعب فى اختيار رئيس ثورى ومصلح فى وقت واحد وهذا معناه ألا يكون ملطوطا بعلاقات سابقة مع نظام مبارك المخلوع.

حالة البكاء على البرادعى من البعض الآن لا محل لها من الإعراب فالرجل انسحب بإرادته وكل مصرى له الحق فى الاختيار وخدمة البلاد سواء بالوقوف مع البرادعى على أرض الواقع إذا كان سيغير من سياساته التى ارتمت فى أحضان تغريدات على تويتر ربما جعلت البعض يلومه على ذلك.

أو تكون الخدمة بانتخاب مرشح رئاسى يريد التغيير فعلا ويصلح للبلاد دون تطييب خواطر المصريين بدبلوماسية وبونبونى وكل ذلك مع الوقوف بالمرصاد لأعضاء مجلس الشعب الذين فازوا بأصواتنا فلهم التحية إذا كان الولاء منهم للشعب ولهم الرفض منا إذا كانوا يسعون إلى رضاء عسكر أو رئيس ديكتاتور.

البرادعى لا نريد مزايدة عليه خاصة وأن هناك من يشتمونه عندما كان مرشحا محتملا ويشتمونه بعد أن ترك الساحة لهم وكأنها هواية الشتم وخلاص بسبب ومن غير سبب رغم أن الحكاية كلها تتلخص فى أن مصر لن تقف على شخص والشعب هو الذى يختار وهو الذى يحكم ولن يخدعه أحد وإذا أردنا الثورة فعلينا أن نحرسها بالسلمية ونطبقها على أخلاقنا وأعمالنا وكل حياتنا دون شعارات وإنما بكسب تعاطف جميع البسطاء معها.

2012/01/02

القاضى يخاف الله



ينعم التاريخ العربى بالعبر والمواعظ التى تساعد من يقرأها بتعقل على الاستفادة منها والأخذ بايجابياتها فى حاضره ومستقبله وإبعاد سلبياتها عن محيط حياته.

اسمحوا لى بالحكاية عن هذا القاضى الذى جلس يوما وقرر حبس كبار شخصيات الكوفة كما جاء فى كتاب "قضاة شرفوا وجه التاريخ" لمؤلفه "محمود محمد حبابة" والذى صدر عام 2004 بدار الإيمان ودار القمة.

هذا القاضى اسمه "شريك بن عبد الله النخعى" وقد ولد فى بخارى سنة 95 هـ، وحفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى الكوفة لدراسة الحديث وتعلم السنة النبوية وأصبح بعد كد واجتهاد من القضاة العادلين والعلماء المتفقهين فى الدين ودليل ذلك يرجع إلى أنه ذات صباح دخلت عليه إمرأة تشكو من حادث وقع فى الليلة الماضية حيث قالت :أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين .. فرد عليها القاضى شريك:من ظلمك؟

فقالت : الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين "المهدى".
فسألها القاضى : وكيف؟

سمعت المرأة سؤال القاضى فسردت له قصتها حيث كن والدها يمتلك بستانا كبيرا على شاطى الفرات لكن الأجل اختاره لتصعد روحه إلى السماء بينما ترك على الأرض ذلك البستان فأخذ أبناؤه نصيبهم ومن بينهم تلك المرأة والتى قامت ببناء حائط بينها وبين إخوتها حتى يعرف كل فرد نصيبه ثم جعلت فى البستان رجلا فاريا خبيرا يصلح شأنه وكانت تقبض إيراد البستان وتنفق من هذه الأموال على نفسها وأولادها.

لكن دوام الحال من المحال فقد اشترى الأمير "موسى بن عيسى" بساتين إخوتها ورغب فى أن يشترى بستان هذه المرأة وحاول ذلك بالمساومة والترغيب، فكان جوابها : الرفض.

اشتعل الأمير "موسى" غضبا وكشر عن أنيابه فهددها وتوعدها لكنها ظلت متمسكة بموقفها رافضة لتهديده المرعب.

فشل الأمير فى إرهاب المرأة لكنه نجح فى إرسال 500 غلام وفاعل فى ليلة سوداء إلى بستان هذه المرأة فاقتلعوا الحائط الذى كان يحدد مساحة أرضها وعندها أصبحت الأراضى مفتوحة على بعضها لا تعرف أين تقع بساتين تلك الأمرأة من حدود بساتين الأمير "موسى بن عيسى".

ختمت المرأة قصتها مأساتها التى حدثت فى مساء الليلة الماضية بقولها : اختلط نخله بنخلى وزرعى بزرعه.
وما أن نطقت بهذه الكلمات حتى أحضر القاضى "شريك بن عبد الله النخعى" ورقة كتب فيها: "أما بعد أبقى الله الأمير وحفظه وأتم نعمته عليه فقد جاءتنى إمرأة وذكرت أن الأمير اغتصب بستانها بالأمس، فليحضر الأمير مجلس الحكم الساعة أو يوكل وكيلا والسلام".

تجد هنا فى رسالة القاضى أن يباشر مهام عمله بالتحقق من إدعاءات هذه الشاكية ولم تتزلزل الأرض من تحته لأن خصمها هو الأمير ابن عم أمير المؤمنين، فالقاضى لم يهب الموقف وقرر إحضار الأمير بشحمه ولحمه إلى ساحة المحاكمة وإذا امتنع لحجة ما فعليه أن يوفد من يوكله عنه، أى أن القاضى شريك لا يترك للأمير "تلكيكة" يرتكز عليها بحكم أن البلاد غير مستقرة وأنه مشغول لشوشته فى متابعة أمورها.

وصلت رسالة القاضى شريك إلى الأمير الذى قرأها فغضب ثم قال لصاحب الشرطة -(وزير الداخلية فى عهده)- : اذهب لشريك القاضى وقل له بلسانى : يا سبحان الله !!! ما رأيت أعجب منك كيف تنصف على الأمير إمرأة حمقاء لم تصح دعواها؟!

فجاء رد صاحب الشرطة : وهل حكم القاضى فأنصفها؟

فقال الأمير :حسبها من الإنصاف أن أقف معها فى مجلس القضاء.. فقال صاحب الشرطة:لو تفضل الأمير فأعفانى من هذه المهمة فغضب الأمير من رده قائلا:اذهب ولا تتردد.

انظر لصاحب الشرطة الذى معناه بمفهمومنا اليوم أنه وزير الداخلية وهو يخشى القاضى ويخاف من مواجهته ولا يسير تبعا لهوى الحاكم بل يراجعه رغم أن البعض يعامل صاحب السلطة الآن بمبدأ يأمر فتنفذ أوامره حتى ولو كانت قاتلة ضاربة العدالة فى حياتها مخرسة لسانها.

صاحب الشرطة هنا يعطى صورة لأى وزير داخلية فى أى دولة بأن مبدأ عمله: تنفيذ القانون مع حماية الأفراد واحترامهم بمعاملة آدمية وساعتها إن فعل ذلك سيضرب له تعظيم سلام من الجميع.

نعود لصاحب الشرطة فنجده خرج من جلسة الأمير والحيرة تركب رأسه إلا أنه أقنع نفسه بأنه مجرد رسول يصل بأمانة الأمير للقاضى ولا علاقة له ببقية الأمر.

وعند القاضى شريك وقف صاحب الشرطة يبلغ رسالة الأمير موسى بن عيسى فاستمع القاضى لكلامه ثم سأله عن كونه قد جاء وكيلا عن الأمير فرد صاحب الشرطة بالنفى.

فأمر القاضى حاجبه بأن يأخذ صاحب الشرطة ويضعه فى الحبس وانتقل هذا الخبر بسرعة البرق إلى الأمير موسى الذى اشتعل غضبا وأرسل يحضر حاجبه ثم أمره بالذهاب إلى شريك القاضى برسالة مفادها أن صاحب الشرطة ما هو إلا رسول يؤدى واجبا كلفه به الأمير وبالتالى لا ينبغى حبسه، فجاء رد القاضى سريعا على الحاجب التابع للأمير فقد حبسه مع صاحب الشرطة، وسرعان ما انتقل القرار إلى الأمير فى لمح البصر وهنا زاد غضبه وقرر إحضار كباء الكوفة وأصدقاء القاضى حيث أبلغهم أمر القاضى شريك ثم قال لهم : اذهبوا إليه وأبلغوه سلامى وأعلموه أنه استخف بى وبرسولى وإنى لست كالعامة ولا أنا من العامة وإنه يعلم ذلك.

ووصلت الرسالى للقاضى شريك ففعل فى المبعوثين كما فعل فى المرتين السابقتين حيث لقوا نفس المصير:الحبس فى السجن.

حبسهم القاضى جميعا بعد محاولات منهم لخطب وده واستمالته حتى يقف فى صف الأمير موسى بن عيسى.

فقال لهم شريك القاضى: ما لى أراكم تكلموننى فى أمر لا أقدر فيه على غير الحق!! فسألوه عن جديته فى حبسهم فأجابهم: نعم.

والسؤال هنا: لماذا يحبس القاضى "شريك" كل هؤلاء؟

فهو يحبس وزير داخلية عصره دون خوف منه أو من وجود عناصر تتولى حفظ الأمن فى الإمارة فلا خشى من تلفيق تهمة له أو إنهاء حياته بلفافة من الأعشاب المخدرة.

كما حبس القاضى حاجب الأمير ومجموعة من كبراء الكوفة دون الخوف من نفوذهم وهم أيضا يحسب لهم أنهم لم ينطقوا بكلمة: أنت مش عارف إحنا مين؟

وتأتى الإجابة على لسان شريك ليوضح السبب فيما فعله وهو "حتى لا يعود هؤلاء لمساندة ظالم".

أعلنها القاضى صراحة فى صاحب سلطة دون خشية أو عبارات دبلوماسية ملتوية وإنما نطقها بصدق كما يطبق حكم الحبس فيمن سبق ذكرهم.

شريك القاضى يلخص الأمر فى أن قبول هؤلاء للوفادة كرسل تابعين للأمير ما هو إلا تعطيل لعدالة القضاء واعتداء على الحقوق التى يجب أن يصونها القاضى للضعيف والقوى بصورة متساوية لا تهتم سوى بالعدل والحق كما يأمره ربه دون خوف من أمير حتى ولو كان أكبر رأس فى الدولة فالدنيا زائلة والجميع ذاهب إلى:التراب.

نحن الآن أمام قاضى يحبس كل من له صلة بأمير رفض المثول أمام المحكمة لأنه ليس من العامة كما يقول بل ويذهب بفرسانه لمقر السجن فيأمر الحرس بفتح الأبواب ومن ثم الإفراج عن كل المحبوسين.

هنا علم شريك بما فعله الأمير موسى فطلب القاضى من غلامه أن يجمع كل متاعه معلنا تركه لمجلس القضاء لكن عندما علم الأمير بذلك أصابه الفزع والخوف وقرر الحاق بموكب القاضى مناشدا إياه بالرجوع قائلا: يا أبا عبد الله أصلحك الله تثبت وأنظر قليلا، أتحبس إخوانى وأعوانى بعد أن حبست رسولى؟

فيرد شريك بسان قاطع كالسيف لايهتم بأن الأمير جاء يسترضيه ولكنه ينطق بما يراه الحق قائلا:لأنهم مشوا لك فى أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه ثم أضاف "إما يردوا جميعا إلى السجن أو أذهب إلى أمير المؤمنين المهدى فأستعفيه من قضاء الكوفة بل ومن القضاء كله.

تنتهى كلمات القاضى شريك بينما الأمير موسى بن عيسى يصمت فى محاولة للخروج من المأزق الذى وضع نفسه فيه بسبب إمرأة، فهو إما أن يرضخ للقاضى فيقابله الناس من المنافقين بالغمز واللمز والسخرية لأن كلمته انكسرت على ميزان عدل القاضى أو أن يرضى الأمير غرور سلطانه فيرفض كلام القاضى لكنه رضخ لحكم القاضى شريك ربما احتراما لعدله أو خوفا -فى رأيى المتواضع- من أن تزول إمارته إذا علم بحقيقة أمر ابن عمه "المهدى" وهو أمير المؤمنين.

اختار الأمير موسى الحل الأول وهو الرضوخ للقاضى قائلا: قد رددتهم إلى الحبس فعد إلى مجلسك.

يعود شريك لمجلس القضاء ويستدعى المرأة المتظلمة فيقول لها :هذا خصمك قد حضر.
ثم يقول الأمير موسى:أرجو أن تأمر بإخراج المسجونين.
فيوافق القاضى ثم تبدأ جلسة المحاكمة بسؤال الأمير عن قول المرأة فيجيب :صدقت.

فيحكم شريك برد حاجات المرأة إليها وقيام الأمير ببناء الحائط "سريعا وكما كان" كما على الأمير أن يرد بيت الرجل الفارسى ومتاعه.

خرجت المرأة شاكرة لقضاء العدل قائلة لشريك:بارك الله عليك وجزاك خيرا.

ثم انتهت الجلسة بخروج موسى بن عيسى "الأمير" وهو يقول : من عظم أمر الله أذل الله له عظماء خلقه.

درس بديع فى موقف صغير أراد به القاضى العادل أن يطبق حكم الحق ولو على رقبة أكبر رأس فى دولته دون مهابة أو خوف أو تسويف مع العلم بأن القاضى شريك تم تعيينه فى منصبه بعد إلحاح من شديد من المهدى "أبو جعفر المنصور" وهو ابن عم الأمير موسى بن عيسى لكنه رغم كل ذلك النفوذ لم يخف من صلة القرابة ولم يحتسبها بمبدأ "العين ماتعلاش عن الحاجب"
وإنما حسمها بخوفه من الله حيث اتبع مبدأ "العدل فوق الجميع".