2012/12/14

أحمد بهجت .. «ناقد الشعب» في «كلمتين وبس»



«لا أحد ينكر أن أخطاء كثيرة وقعت في تاريخ هذه الأمة، غير أن الإنصاف يقتضينا أن نذكر أن مسيرة الإنسان تحتمل الخطأ كما تحتمل الصواب.. المأساة كلها أن هذه الأخطاء لم تجد من يتصدى لها بالرفض إلا أخيرًا، ولم تجد جوًا صحيًا يمكن فيه تدارك الخطأ قبل استفحاله.. كانت كلمة (لا) ملغاة تمامًا من قاموس الحياة المصرية».

هكذا تصدى «ناقد الشعب»، الكاتب الكبير أحمد بهجت، لأخطاء استفحلت في عصره لدى المصريين، وذلك في محاولة منه لتنبيههم «فأينما وجهت بصرك لم يقع إلا على خلل أو قصور أو إهمال أو حياد مأساوي تجاه الشرور»، كما يؤكد كاتبنا من خلال برنامجه الإذاعي الشهير «كلمتين وبس» أن «مصر لم تكن هكذا أبدًا».

«كلمتين وبس»

فقط 5 دقائق.. تستقبل خلالها أذن المصريين صوت الفنان القدير فؤاد المهندس، فيتحدث عبر أثير إذاعة البرنامج العام، وهو يحمل أفكار كاتبنا أحمد بهجت في برنامجه الإذاعي «كلمتين وبس»، والذي ينتقد «أسلوبًا معينًا من أساليب الحياة، سواء كان هذا الأسلوب فرديًا أو داخل الأجهزة الحكومية»، برؤية فلسفية اشتهر بها من خلال أسلوب شيق في كتابته الساخرة.

وتعود فكرة برنامج «كلمتين وبس» إلى المخرج الإذاعي يوسف حجازي، وما أن اتفق الطرفان حتى بدأ العمل، وسُجلت حلقات حين تستمع لها فتراها تنتقد أحوالنا الاجتماعية، كما يصب فيها كامل الغضب على «الروتين»، والذي تشتهر به مصالحنا وهيئاتنا الحكومية منذ قديم الأزل.
كاره الروتين الحكومي

ويرى أحمد بهجت، المولود في 15 نوفمبر 1932 بالقاهرة، أنه في «الدنيا كلها يطلق اصطلاح الروتين على النظام المحكم.. وفي مصر تعني كلمة الروتين تعذيب الإنسان لأخيه الإنسان.. وتعني نظامًا للعمل له كفاءة الحمار وسرعته.. وقد اجترأ على سباق مع الطائرات النفاثة».

رغم ذلك نجد أن «صانع البهجة» و«صاحب صندوق الدنيا» يصف «الروتين المصري» بـ«الصديق المتفاني»، لكنه يباغتك بدعوة تقول عليه: «الذي نرجو أن نتخلص منه».

وإذا استعرضت حلقات كاتبنا أحمد بهجت في برنامجه «كلمتين وبس»، ستجده يحدثك عن تفشي ظاهرة الرشوة، والتي يستحلها البعض مقابل إنجاز ما لك من حقوق، ويشير إلى أن «مشكلة الرشوة إنها بتعمل جو في الدنيا يخللي القيم تنتحر، ويجي وقت يبقى الغلط هو الصح والصح هو الغلط، يطلعوا الشبان الجداد مليانين أحلام طيبة وعندهم أخلاق ومثاليات، يبصوا عالدنيا يلاقوها ماشية بالرشوة.. ينكسر جواهم إحساسهم بالقيم وييأسوا، اليأس يكبر والدنيا تبقى جحيم».

حلقة أخرى تراه يحدثك من خلال صوت الفنان القدير، فؤاد المهندس، عن روتين المصالح الحكومية، القائم على إمضاءات لا تعد ولا تحصى، حتى تستوفي ما لك من مصلحة، فيقول: «كل الأوراق مستوفاه.. الكلمة دي عاملة زي الشبح في الحكومة، زي لعنة الفراعنة، مفيش في الحكومة حركة إلا بالورق.. أوراق راحة وأوراق جاية.. أوراق بتتمضي وأوراق حتتمضي.. أوراق ناقصة إمضا.. وأوراق زايدة إمضا.. نهر إمضاءات أعظم من نهر النيل».

كما يحدثك أحمد بهجت- الذي عمل صحفيًا بـ «أخبار اليوم» و«صباح الخير»، ثم انتقل إلى صحيفة الأهرام عام 1958- في حلقاته الإذاعية المتنوعة عن حسن الإدارة التي يتوجب على الجميع أن يدير بها مصر سواء في بيته أو عمله، كما ينتقد انتشار القمامة في الشوارع وعدم رصف الطرق وغياب الرقابة على الأسواق.

وتجد سخريته لاذعة منتقدة لغلاء المهور عند عقد الزواج، ويخاطب إنسانية من يستمع له حتى يتعامل برفق مع الحيوان.. باختصار ينبهك لأخطاء تراها من الأمور المعتادة في حياتك، لكنه يسعى إلى أن تغير من نفسك للأفضل، عاملاً بمبدأ أن «الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم».

غياب الحرية يقتل العقل
ويلاحظ أحمد بهجت أن سبب ما آلت إليه الأحوال في مصر لحالة من القصور الشديد لدى الجميع، ترتكز على أنه «لم يعد البقاء للأصلح»، كما «احتلت قيم النفاق مقاعد الصدق، وصار التظاهر بالعمل بديلاً عن العمل، حتى وصلنا إلى وضع صارت فيه الكلمة تغني عن الفعل، وكاد العقل المصري أن يتوقف عن العمل».

ويُنبهك «صانع البهجة»- في كتاباته التي تتسم بلمحة صوفية- إلى سبب توقف «العقل المصري» حيث يشير إلى أنه حين يفتقر الجو إلى الحرية «يتوقف العقل»، وينطفيء نور الحلم لدى الإنسان، و«ينتحر الطموح»، لكنه يرفع لك رايات الأمل بقلمه، فيكتب أنه «من نعمة الله على هذا الشعب أنه لا يخلو من الفضل وإن اشتدت الظلمات، ولا يعدم الرجال وإن أحدق الخطر».

نهاية «ناقد الشعب»
بعد صراع طويل مع المرض الذي حجب سطور «صاحب صندوق الدنيا» في أيامه الأخيرة، غيب الموت كاتبنا أحمد بهجت، وذلك في 11 ديسمبر من عام 2011، وترك لنا أعمالا متميزة من بينها كتب «بحار الحب عند الصوفية»، و«مذكرات زوج»، و«صائمون والله أعلم»، و«أنبياء الله»، و«مذكرات صائم»، و«حراس الحقيقة».. وشيع جثمانه من مسجد «السيدة نفيسة».

كان يعشق مصر ويتمنى لها الخير وقت الأزمات، وكأنه يستشعر ما تعيشه الآن، فينطق بقلم ساخر كاتبًا: «أم الدنيا النهارده في محنة، بتمر بأزمة.. عظمة أي شعب بتبان في وقت الشدة.. زي الصاحب ماتعرفوش إلا لما تقع أو تعيا أو تحتاج.. يبان الصديق ساعتها، الشعوب رخرة كده، كل محنة تمر عليها بتصهر جواها حاجات.. يطلع الزبد عالسطح.. تطلع الرغاوي اللي مافيهاش فايدة فوق، ويفضل الخير مترسب تحت.. وياما عندنا خير.. مصر عمرها ما تعدم رجاله بحق وحقيق، عمرها ما تعدم الفضل ولا العلم ولا الحق.. حتلاقي فيها ناس مستعدة تموت وتجوع وتتبهدل على اسم مصر».