" يعتمد مراد سيد أحمد باشا وزير
المعارف تعيين طه حسين أول عميد مصرى لكلية الآداب ، و يبلغ هذا الخبر لمدير
الجامعة أثناء اجتماع لمجلس الجامعة كان طه حسين يحضره ممثلا لكليته ، فيقدم
المدير تهنئته للعميد الجديد ، و يقترح عليه أن يقابل الوزير فى صباح اليوم التالى
للشكر.
و يعرف مدير الجامعة أثناء الجلسة أن رسولا
أرسله وزير المواصلات توفيق دوس باشا يريد مقابلة الدكتور طه حسين مقابلة عاجلة
فيأذن للعميد الجديد فى مغادرة المجلس لمقابلة رئيس الوزير.
و يعود طه حسين بعد مدة قصيرة إلى قاعة
الاجتماع صامتا ثم ينصرف عند انتهاء الاجتماع دون ان يتحدث إلى الرئيس أو إلى الأعضاء
فى أمر الرسالة التى حملها إليه رسول وزير المواصلات.
و فى صباح اليوم التالى يستقبل وزير
المعارف عميد كلية الآداب الجديد و قد جاء للشكر على التعيين و لكن الوزير الذى
يكرر تهانيه ينتقل إلى موضوع كلفه رئيس الوزراء بالحديث فيه.
إن جريدة جديدة باسم جريدة الشعب ستصدر
قريبا بإمكانات غير محدودة لتكون لسان حال الحزب الذى أسسه صدقى باشا و هو حزب
الشعب و دولة الرئيس يعرض على طه حسين رياسة تحرير هذه الجريدة.
و طه حسين يجيب بأن دولة الرئيس كان فى
اليوم السابق قد كلف شخصين آخرين بأن يتحدثا معه فى هذا الموضوع ، و هما وزير
المواصلات توفيق دوس باشا و عبد الحميد بدوى باشا و أن جوابه فى الحالين كان هو
الرفض بغير تردد.
إنه لم يمض على انتخابه عميدا لكلية الآداب
غير يوم واحد و هو أول عميد مصرى للكلية و هو لا يريد أن يترك دراساته و لا زملاءه
الذين انتخبوه و لا تلاميذه و لا كليته.
و يقول مراد سيد أحمد إن اسماعيل صدقى لا
يريده أن يترك دراساته بل يريده أن يتابع فى صحيفة الشعب نشر مقالاته الأدبية و بحوثه
إلى جانب المقالات السياسية و أن سيكون فى التحرير حرية كاملة و رئيس الوزراء يؤكد
أيضا أن مطالب طه حسين كلها ، مادية و غير مادية مجابة مقدما.
و يكرر طه حسين الرفض.
يقول الوزير : يظهر أن دولة الرئيس يعرفك
جيدا فقد كلفنى ان أعرض عليك – إذا لم ترغب فى رياسة التحرير – أن تبقى عميدا
لكلية الآداب على أن تكتب المقال الافتتاحى للجريدة فقط.
و يرد طه حسين : ليس إلى هذا سبيل.
فيقول الوزير و هو يرجع إلى ورقة أمامه :
إن صدقى باشا يقترح عليك موضوع المقال الافتتاحى فى العدد الأول للجريدة و هو ( أن
وجود حزب الشعب ضرورى لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة ).
و يرد طه حسين و هو يبتسم ابتسامة فيها شىء
من الأسى : دولة الرئيس يحسن اختيار العناوين !
و يقول الوزير : و هو أخيرا يرضى بأن تكتب المقال
على أن ينشر بغير إمضاء.
فيقول طه حسين : (( ليست المسألة يا معالى
الوزير أن أكتب مقالا يملى على موضوعه أو لا يملى ، و أن أمضيه أو لا أمضيه ، و أن
أتحكم فى مقابله المادى أو لا أتحكم ، إننى لا استخفى إذا أردت أن أقوم بعمل من
الأعمال.
المسألة يا باشا أننى لا اعرف إن كان وجود
حزب الشعب ضروريا لتحقيق المصالح المصرية الصحيحة أم لا ، و لكننى أعرف أن المصالح
الصحيحة هى فى انصرافى إلى عملى فى كلية الآداب ، الذى لم يمض على تعيينى عميدا
لها غير يوم واحد.
إن كتابتى فى جريدة الشعب تضرنا جميعا و لا
تنفع أحدا و ليس من مصلحة الحكومة أن يعرف الناس أن الموظفين يكتبون فى صحيفتها ،
و لا ينبغى لعميد كلية الآداب أن يسخر نفسه للكتابة فى صحف الحكومة ، فبتعرض بذلك
لازدراء الزملاء و الطلاب جميعا )) ".
كانت السطور السابقة هى جزء من فصل بعنوان
العميد و الذى جاء ضمن كتاب (( ما بعد الأيام )) و هو صادر عن دار الهلال و قد
كتبه الدكتور محمد حسن الزيات بأسلوب بديع يدفعك لقراءة الكتاب من الجلدة للجلدة.
أرجوك أن تنظر بعناية لكلمات عميد الأدب
العربى طه حسين ذلك الدكتور النابغة و الذى كان أول عميدا مصريا يأتى بالانتخاب فى
الجامعة المصرية.
لقد أعلنها الدكتور طه حسين برفضه لأى عمل
سياسى يستخدم اسمه و قلمه و إسهاماته من أجل تزيين وجه حكومة اسماعيل صدقى .. بل و
لم يخرج طه حسين ليقل أن رأيه هو يفترق عن منصبه الأكاديمى.
ذلك العميد للأدب العربى اهتم ببحوثه و
دراساته و لم يخرج "هتيفا و مصفقا" للحكومة بل و لم يخش على منصبه الذى
لم تبرد نار الوصول إلى كرسيه لكنه اختار أن يحفظ ماء وجهه حتى لا يأتى التاريخ
ليحكم عليه بأنه مات فى دباديب أحضان الحكومة لدرجة جعلته يتغنى بها و بإنجازات
القائمين عليها كذبا و زورا.
رفض العميد أن يكون عبدا للحكومة ينافقها
بأدواته الأدبية التى يجيدها و قرر اختيار الاحترام من زملائه و طلابه.
أديبنا العربى طه حسين الذى فضل منصبه
الأكاديمى و بحوثه و داوم على كتاباته الفكرية التى لا تتشدق بالحلاوة للحكومة و
الضرر لمن يعاديها.
رحم الله صاحب اللغة العربية اليسيرة غير
العسيرة فعلى الرغم من غياب نعمة البصر لديه إلا أنه كان يمتلك نعمة البصيرة
المحجوبة عن أناس مبصرين لا يدركون ما يفعلون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق