ينعم التاريخ العربى بالعبر والمواعظ التى تساعد من يقرأها
بتعقل على الاستفادة منها والأخذ بايجابياتها فى حاضره ومستقبله وإبعاد سلبياتها
عن محيط حياته.
اسمحوا لى بالحكاية عن هذا القاضى الذى جلس يوما وقرر حبس كبار
شخصيات الكوفة كما جاء فى كتاب "قضاة شرفوا وجه التاريخ" لمؤلفه "محمود
محمد حبابة" والذى صدر عام 2004 بدار الإيمان ودار القمة.
هذا القاضى اسمه "شريك بن عبد الله النخعى" وقد
ولد فى بخارى سنة 95 هـ، وحفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى الكوفة لدراسة الحديث
وتعلم السنة النبوية وأصبح بعد كد واجتهاد من القضاة العادلين والعلماء المتفقهين
فى الدين ودليل ذلك يرجع إلى أنه ذات صباح دخلت عليه إمرأة تشكو من حادث وقع فى
الليلة الماضية حيث قالت :أنا بالله ثم بك يا نصير المظلومين .. فرد عليها
القاضى شريك:من ظلمك؟
فقالت : الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين "المهدى".
فقالت : الأمير موسى بن عيسى ابن عم أمير المؤمنين "المهدى".
فسألها القاضى : وكيف؟
سمعت المرأة سؤال القاضى فسردت له قصتها حيث كن والدها يمتلك بستانا كبيرا على شاطى الفرات لكن الأجل اختاره لتصعد روحه إلى السماء بينما ترك على الأرض ذلك البستان فأخذ أبناؤه نصيبهم ومن بينهم تلك المرأة والتى قامت ببناء حائط بينها وبين إخوتها حتى يعرف كل فرد نصيبه ثم جعلت فى البستان رجلا فاريا خبيرا يصلح شأنه وكانت تقبض إيراد البستان وتنفق من هذه الأموال على نفسها وأولادها.
سمعت المرأة سؤال القاضى فسردت له قصتها حيث كن والدها يمتلك بستانا كبيرا على شاطى الفرات لكن الأجل اختاره لتصعد روحه إلى السماء بينما ترك على الأرض ذلك البستان فأخذ أبناؤه نصيبهم ومن بينهم تلك المرأة والتى قامت ببناء حائط بينها وبين إخوتها حتى يعرف كل فرد نصيبه ثم جعلت فى البستان رجلا فاريا خبيرا يصلح شأنه وكانت تقبض إيراد البستان وتنفق من هذه الأموال على نفسها وأولادها.
لكن دوام الحال من المحال فقد اشترى الأمير "موسى بن
عيسى" بساتين إخوتها ورغب فى أن يشترى بستان هذه المرأة وحاول ذلك بالمساومة
والترغيب، فكان جوابها : الرفض.
اشتعل الأمير "موسى" غضبا وكشر عن أنيابه
فهددها وتوعدها لكنها ظلت متمسكة بموقفها رافضة لتهديده المرعب.
فشل الأمير فى إرهاب المرأة لكنه نجح فى إرسال 500 غلام
وفاعل فى ليلة سوداء إلى بستان هذه المرأة فاقتلعوا الحائط الذى كان يحدد مساحة
أرضها وعندها أصبحت الأراضى مفتوحة على بعضها لا تعرف أين تقع بساتين تلك الأمرأة
من حدود بساتين الأمير "موسى بن عيسى".
ختمت المرأة قصتها مأساتها التى حدثت فى مساء الليلة الماضية
بقولها : اختلط نخله بنخلى وزرعى بزرعه.
وما أن نطقت بهذه الكلمات حتى أحضر القاضى "شريك بن
عبد الله النخعى" ورقة كتب فيها: "أما بعد أبقى الله الأمير
وحفظه وأتم نعمته عليه فقد جاءتنى إمرأة وذكرت أن الأمير اغتصب بستانها بالأمس،
فليحضر الأمير مجلس الحكم الساعة أو يوكل وكيلا والسلام".
تجد هنا فى رسالة القاضى أن يباشر مهام عمله بالتحقق من
إدعاءات هذه الشاكية ولم تتزلزل الأرض من تحته لأن خصمها هو الأمير ابن عم أمير
المؤمنين، فالقاضى لم يهب الموقف وقرر إحضار الأمير بشحمه ولحمه إلى ساحة المحاكمة
وإذا امتنع لحجة ما فعليه أن يوفد من يوكله عنه، أى أن القاضى شريك لا يترك للأمير
"تلكيكة" يرتكز عليها بحكم أن البلاد غير مستقرة وأنه مشغول
لشوشته فى متابعة أمورها.
وصلت رسالة القاضى شريك إلى الأمير الذى قرأها فغضب ثم قال
لصاحب الشرطة -(وزير الداخلية فى عهده)- : اذهب لشريك القاضى وقل له بلسانى :
يا سبحان الله !!! ما رأيت أعجب منك كيف تنصف على الأمير إمرأة حمقاء لم تصح
دعواها؟!
فجاء رد صاحب الشرطة : وهل حكم القاضى فأنصفها؟
فقال الأمير :حسبها من الإنصاف أن أقف معها فى مجلس القضاء.. فقال صاحب الشرطة:لو تفضل الأمير فأعفانى من هذه المهمة فغضب الأمير من رده قائلا:اذهب ولا تتردد.
فقال الأمير :حسبها من الإنصاف أن أقف معها فى مجلس القضاء.. فقال صاحب الشرطة:لو تفضل الأمير فأعفانى من هذه المهمة فغضب الأمير من رده قائلا:اذهب ولا تتردد.
انظر لصاحب الشرطة الذى معناه بمفهمومنا اليوم أنه وزير
الداخلية وهو يخشى القاضى ويخاف من مواجهته ولا يسير تبعا لهوى الحاكم بل يراجعه
رغم أن البعض يعامل صاحب السلطة الآن بمبدأ يأمر فتنفذ أوامره حتى ولو كانت قاتلة
ضاربة العدالة فى حياتها مخرسة لسانها.
صاحب الشرطة هنا يعطى صورة لأى وزير داخلية فى أى دولة بأن
مبدأ عمله: تنفيذ القانون مع حماية الأفراد واحترامهم بمعاملة آدمية وساعتها إن
فعل ذلك سيضرب له تعظيم سلام من الجميع.
نعود لصاحب الشرطة فنجده خرج من جلسة الأمير والحيرة تركب
رأسه إلا أنه أقنع نفسه بأنه مجرد رسول يصل بأمانة الأمير للقاضى ولا علاقة له
ببقية الأمر.
وعند القاضى شريك وقف صاحب الشرطة يبلغ رسالة الأمير موسى بن
عيسى فاستمع القاضى لكلامه ثم سأله عن كونه قد جاء وكيلا عن الأمير فرد صاحب
الشرطة بالنفى.
فأمر القاضى حاجبه بأن يأخذ صاحب الشرطة ويضعه فى الحبس
وانتقل هذا الخبر بسرعة البرق إلى الأمير موسى الذى اشتعل غضبا وأرسل يحضر حاجبه
ثم أمره بالذهاب إلى شريك القاضى برسالة مفادها أن صاحب الشرطة ما هو إلا رسول
يؤدى واجبا كلفه به الأمير وبالتالى لا ينبغى حبسه، فجاء رد القاضى سريعا على
الحاجب التابع للأمير فقد حبسه مع صاحب الشرطة، وسرعان ما انتقل القرار إلى الأمير
فى لمح البصر وهنا زاد غضبه وقرر إحضار كباء الكوفة وأصدقاء القاضى حيث أبلغهم أمر
القاضى شريك ثم قال لهم : اذهبوا إليه وأبلغوه سلامى وأعلموه أنه استخف بى
وبرسولى وإنى لست كالعامة ولا أنا من العامة وإنه يعلم ذلك.
ووصلت الرسالى للقاضى شريك ففعل فى المبعوثين كما فعل فى
المرتين السابقتين حيث لقوا نفس المصير:الحبس فى السجن.
حبسهم القاضى جميعا بعد محاولات منهم لخطب وده واستمالته حتى
يقف فى صف الأمير موسى بن عيسى.
فقال لهم شريك القاضى: ما لى أراكم تكلموننى فى أمر لا
أقدر فيه على غير الحق!! فسألوه عن جديته فى حبسهم فأجابهم: نعم.
والسؤال هنا: لماذا يحبس القاضى "شريك" كل
هؤلاء؟
فهو يحبس وزير داخلية عصره دون خوف منه أو من وجود عناصر
تتولى حفظ الأمن فى الإمارة فلا خشى من تلفيق تهمة له أو إنهاء حياته بلفافة من
الأعشاب المخدرة.
كما حبس القاضى حاجب الأمير ومجموعة من كبراء الكوفة دون
الخوف من نفوذهم وهم أيضا يحسب لهم أنهم لم ينطقوا بكلمة: أنت مش عارف إحنا
مين؟
وتأتى الإجابة على لسان شريك ليوضح السبب فيما فعله وهو "حتى لا يعود هؤلاء لمساندة ظالم".
وتأتى الإجابة على لسان شريك ليوضح السبب فيما فعله وهو "حتى لا يعود هؤلاء لمساندة ظالم".
أعلنها القاضى صراحة فى صاحب سلطة دون خشية أو عبارات
دبلوماسية ملتوية وإنما نطقها بصدق كما يطبق حكم الحبس فيمن سبق ذكرهم.
شريك القاضى يلخص الأمر فى أن قبول هؤلاء للوفادة كرسل
تابعين للأمير ما هو إلا تعطيل لعدالة القضاء واعتداء على الحقوق التى يجب أن
يصونها القاضى للضعيف والقوى بصورة متساوية لا تهتم سوى بالعدل والحق كما يأمره
ربه دون خوف من أمير حتى ولو كان أكبر رأس فى الدولة فالدنيا زائلة والجميع ذاهب
إلى:التراب.
نحن الآن أمام قاضى يحبس كل من له صلة بأمير رفض المثول أمام
المحكمة لأنه ليس من العامة كما يقول بل ويذهب بفرسانه لمقر السجن فيأمر الحرس
بفتح الأبواب ومن ثم الإفراج عن كل المحبوسين.
هنا علم شريك بما فعله الأمير موسى فطلب القاضى من غلامه أن
يجمع كل متاعه معلنا تركه لمجلس القضاء لكن عندما علم الأمير بذلك أصابه الفزع
والخوف وقرر الحاق بموكب القاضى مناشدا إياه بالرجوع قائلا: يا أبا عبد الله
أصلحك الله تثبت وأنظر قليلا، أتحبس إخوانى وأعوانى بعد أن حبست رسولى؟
فيرد شريك بسان قاطع كالسيف لايهتم بأن الأمير جاء يسترضيه ولكنه ينطق بما يراه الحق قائلا:لأنهم مشوا لك فى أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه ثم أضاف "إما يردوا جميعا إلى السجن أو أذهب إلى أمير المؤمنين المهدى فأستعفيه من قضاء الكوفة بل ومن القضاء كله.
فيرد شريك بسان قاطع كالسيف لايهتم بأن الأمير جاء يسترضيه ولكنه ينطق بما يراه الحق قائلا:لأنهم مشوا لك فى أمر ما كان لهم أن يمشوا فيه ثم أضاف "إما يردوا جميعا إلى السجن أو أذهب إلى أمير المؤمنين المهدى فأستعفيه من قضاء الكوفة بل ومن القضاء كله.
تنتهى كلمات القاضى شريك بينما الأمير موسى بن عيسى يصمت فى
محاولة للخروج من المأزق الذى وضع نفسه فيه بسبب إمرأة، فهو إما أن يرضخ للقاضى
فيقابله الناس من المنافقين بالغمز واللمز والسخرية لأن كلمته انكسرت على ميزان
عدل القاضى أو أن يرضى الأمير غرور سلطانه فيرفض كلام القاضى لكنه رضخ لحكم القاضى
شريك ربما احتراما لعدله أو خوفا -فى رأيى المتواضع- من أن تزول إمارته إذا
علم بحقيقة أمر ابن عمه "المهدى" وهو أمير المؤمنين.
اختار الأمير موسى الحل الأول وهو الرضوخ للقاضى قائلا: قد
رددتهم إلى الحبس فعد إلى مجلسك.
يعود شريك لمجلس القضاء ويستدعى المرأة المتظلمة فيقول لها :هذا
خصمك قد حضر.
ثم يقول الأمير موسى:أرجو أن تأمر بإخراج المسجونين.
فيوافق القاضى ثم تبدأ جلسة المحاكمة بسؤال الأمير عن قول
المرأة فيجيب :صدقت.
فيحكم شريك برد حاجات المرأة إليها وقيام الأمير ببناء الحائط
"سريعا وكما كان" كما على الأمير أن يرد بيت الرجل الفارسى
ومتاعه.
خرجت المرأة شاكرة لقضاء العدل قائلة لشريك:بارك الله
عليك وجزاك خيرا.
ثم انتهت الجلسة بخروج موسى بن عيسى "الأمير" وهو
يقول : من عظم أمر الله أذل الله له عظماء خلقه.
درس بديع فى موقف صغير أراد به القاضى العادل أن يطبق حكم
الحق ولو على رقبة أكبر رأس فى دولته دون مهابة أو خوف أو تسويف مع العلم بأن
القاضى شريك تم تعيينه فى منصبه بعد إلحاح من شديد من المهدى "أبو جعفر
المنصور" وهو ابن عم الأمير موسى بن عيسى لكنه رغم كل ذلك النفوذ لم يخف من
صلة القرابة ولم يحتسبها بمبدأ "العين ماتعلاش عن الحاجب"
وإنما حسمها بخوفه من الله حيث اتبع مبدأ "العدل فوق
الجميع".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق