((إني قد أوتيت مفاتيح
خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة)).
خرجت هذه الكلمات من سيد الأنام محمد
النبي الكريم، الذي ضاءت الدنيا بمولده، واستقبلت الحياة معه تاريخا يظل مكتوبا ويعرفه الناس جميعا، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، و قبل أن نعرف اختيار رسولنا، علينا المرور على حياته.
جاء بنوره للحياة ولم يكن أباه فى
انتظاره.. إنه من اللحظة الأولى يعيش يتيما، ولا يعرف أن القدر سيمنع عنه حنان
أمه عندما يبلغ السادسة.
ينتقل إلى رعاية جده، وسنوات و يرحل
الجد لاحقا بأبيه وأمه .. إن اليتم مكتوب عليه وهو طفل صغير.
محمد عليه الصلاة و السلام يعانى من
اليتم .. لا أب ولا أم .. لكنه فى رعاية الله الذي أفاده من يتمه، و جعله يفوز منه
و لم يخسر.
يدلل على مزايا يُتم النبي، كتاب «محمد الثائر الأعظم»، الذى جاء فيه : «محمد كسب من يتمه و لم يخسر، فإن
الطفل الذى ينشأ فى ظل أبويه قد يجد من تدليلهما إياه، ومن كفهما كل أذى عنه، ما
يصرفه عن التفكير في أمره، فيألف الاعتماد على سواه: تقضى له حوائجه، و تجاب له
مطالبه، فتقل خبرته بالدنيا، و تضعف صلته بالناس، أو يصبح أقل احتمالا لمتاعب العيش».
نتفق مع هذه الرؤية، التي نؤكد عليها
بأن الله لم يترك نبيه المنتظر يتيما، بل ناداه فى آياته الكريمة و محدثا إياه: ((ألم يجدك يتيما فأوى؟، ووجدك ضالا فهدى؟، ووجدك عائلا فأغنى؟، فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر و أما بنعمة ربك فحدث)).
تربى عليه الصلاة و السلام مع عمه «أبي طالب»، الذى قربه من قلبه واعتنى به، حتى أصبح الكريم شابا يسعى فى الحياة كسائر
الخلق.
و هنا جاء «أبو طالب» قائلا: «يا ابن
أخي أنا رجل لا مال لي، وقد اشتد الزمان علىّ، وألحت علينا سنون منكرة، وليست لنا
مادة و لا تجارة.. وخديجة بنت خويلد تبعث رجالا من قومك.. فيتجرون في مالها..
فلو جئتها ففرضت نفسك عليها لأسرعت إليك و فضلتك على غيرك، لما بلغها عنك من طهارتك».
يتلقى محمد عليه السلام كلمات عمه، الذى يثني على طهارة ابن أخيه.. إنه الصادق الأمين الذي يرسله القدر للتجارة مع
خديجة بنت خويلد، التي تستأجر الرجال و تبعثهم بتجارتها إلى الشام.
بدأ الموضوع بتجارة وستتلاقى القلوب، فخديجة التي تزوجت مرتين لكنها تعيش أرملة بعد موت زوجيها، هي الآن على أعتاب
زواج ثالث من رجل يغير ملامح تاريخ الإنسانية بأمر ربه.
كان الخادم «ميسرة»، الذي صاحب رسولنا
الكريم في تجارته للشام، هو همزة الوصل بين القلبين، فقد أخبر خديجة عن أدب النبي المنتظر، وحسن الخلق طوال الرحلة، لدرجة جعلت «ميسرة» لا يشعر أنه الخادم، بل تواضع
النبي جعله يشعر أنه لا فرق بينهما، فزادت إعجابا على إعجاب لهذا الرجل.. محمد
عليه الصلاة و السلام.
دق قلب السيدة خديجة، وأرسلت دقاتها
مع قريبتها نفيسة بنت علية، التي ذهبت لمحمد لتخطبه لها، وسألته : (( ما يمنعه أن
يتزوج؟)).
فرد: (( ما بيدى ما أتزوج به)).
فقالت نفيسة له: (( فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال و المال و الشرف، ألا تجيب؟)).
فأخذ كلامها ليرد بسؤال عن هذه التي تجمع المال والجمال والشرف، والتي يستطيع أن يتزوجها على فقره.
((خديجة)).. هكذا أجابت نفيسة باسمها، و لم يصدق محمد أن تكون خديجة قد أرسلت له فى طلب الزواج فقال لنفيسة: (( خديجة
بنت خويلد؟!)).
فأكدت له ما قال وما سمع، وأخبرته
أنه إذا أرادها فليدع الأمر لها، وخرجت نفيسة قبل أن يقول لها النبى: (( فأنا
أفعل )).
و بالفعل لم يكذب النبى خبرا، لقد خرج
مع عمه حمزة، و طلبا من خويلد ابن أسد أن يتزوج محمد من ابنته.
و كعادة قديمة يبدو أنها لا تتغير لم
يكن الأب موافقا على الزواج، فابنته غنية و الزوج المتقدم لها فقيرا، غير أنه صغير
السن، وربما يطمع فى مالها.. فمحمد وصل عمره إلى الخامسة والعشرين، وخديجة في سن
الأربعين.. شكوك دارت برأس الأب، الذي زادت دهشته مع ميل ابنته لإتمام هذا الزواج، لكنه نسى أن الزوج محمد قد استأثر بقلب خديجة من خلال أمانته وخلقه غير حديثه
معها عندما عاد من رحلته إلى الشام، فتبينت من كلامه أن لديه صوتا تملؤه نبرات
الرجولة قوة، وتزينه الدماثة و الرقة، و بعذوبة آخذة جمعت حوله الرجال فلا عجب أن
ينال إعجابها.
و تم الزواج بين محمد و خديجة، التي ظل
حبها فى قلبه حتى بعد وفاتها، لدرجة جعلت السيدة عائشة رضي الله عنها تغار منها، وهي فى قبرها.
فذات يوم جاءت عائشة لتُشر إلى النبي فى حديثها عن السيدة خديجة، قائلة: ((هل كانت إلا عجوزا بدلك الله خيرا منها؟)).
ورد رسول الله بإجابة مبسطة: ((لا و
الله ما أبدلني خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس)).
هذا هو محمد عليه الصلاة و السلام، يحفظ الجميل ولديه الوفاء والأمانة والبر، لا يقتنع إلا بالحق ولا يعرف سوى
الصدق، معروف عنه النبل و الكرم والخلق الكريم.. حمل رسالة.. أفضل رسالة.
جاء الكون فى شهر ربيع الأول، ورحل في نفس هذا الشهر العربي، وما بين حياته من عام 571 و حتى مماته عام 632 من ميلاد
السيد المسيح عليه السلام، والتاريخ يسجل لآخر رسالة يبعثها الرحمن مع سيد الخلق والأنام.
حمل وحده رسالة الله إلى البشرية كلها، و حمل اسمه من قبله ستة أشخاص.
فلم يكن اسم محمد موجودا قبل ولادته
سوى على كل من: محمد بن مسيلمة، ومحمد بن أحيحة، ومحمد بن سفيان، ومحمد بن براء، ومحمد بن خزاعي، ومحمد بن حمران.
و سبب التسمية بمحمد أن شاع بين العرب
قبل ميلاد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، أن هناك نبيا سوف يبعث اسمه محمد.
فلجأ العرب – بعضهم – إلى تسمية أبنائهم بذلك الاسم، تيمنا بهذه النبوءة والله
يختار من يشاء ليكون حاملا لرسالته.. إن الله يختار النبي الأمي سيدنا محمد بن
عبد الله.
يصفون النبى الكريم أنه عريض الكتفين، واسع الصدر،غزير الشعر، عظيم الرأس، واسع الجبين، مستدير الوجه، أسمر اللون مشرب
بحمرة، كثيف الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب، أكحل العينين، تام الأذنين، ضليع
الفم، سهل الخدين، منفرج الأسنان، طويل الأنف، ضخم اللحية، أشعر الذراعين والصدر، غليظ
الكفين، متوسط الطول.
صوره الله فأحسن تصويره خلقا و خلقا.
رسول الله إذا تكلم سما وإذا صمت
فعليه الوقار، إذا لقى أحدا يبدأه بالسلام، لا
يغضب لنفسه ولا ينتصر لها، إذا أشار فبكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، قليل الضحك كثير
الابتسام.
إنه يتمتع بروح الدعابة فيقول ابن
عباس: (( كان فى رسول الله دعابة ))، لقد قال لعمته صفية: (( لا تدخل
الجنة عجوز )) فبكت عمته، فقال لها وهو يضحك: (( الله تعالى يقول: "إنا
أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا")).
وبتقديم أبسط التفسيرات للآية
الكريمة يتضح أن العجائز يرددن إلى شبابهن في الجنة، فيكن أبكارا ((عربا)) أى
يستثرن الحب فى القلوب بجمالهن، و((أترابا)) أى في أسنان متقاربة كأنهن اخوات، و
الدعابة مفهومة من خلال التفسير للآية.
يتلقى النبي الوحي، ويعرف أنه مكلف
بخير الرسالات، وعليه أن ينشر دعوته في مجتمع يغرق فى الملذات.. الخمر شرابه الأساسي.. والنساء مستباحة.. وعبادة الأصنام هي العملة المعروفة.
يتعرض النبى للسخرية من كلامه، و يُعذب
الفقراء المستضعفين من الذين يتبعون دعوته، ورسالة ربه الواحد الأحد.
قريش تحاصر أتباعه في مكة، وأهل
الطائف يستقبلون دعوته بالحجارة والرجم حتى تسيل الدماء من كعبه الشريف، وهنا
تظهر سماحته المعهودة عنه.
((اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة
حيلتى وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي إلى من
تكلني؟ إلى بعيد يتهجمنى؟ أم إلى عدو ملكته أمرى؟ إن لم يكن بك على غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا
والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، و لا حول و لا
قوة إلا بك)).
يضرب النبي المثل الأروع في عز محنته
يرفع يديه إلى السماء.. يبتهل داعيا ربه بعد كل ما حدث له، لا يدعو على أعدائه، لكنه يلتمس الخير لعل الله يخرج منهم من يوحد بأمر الله و يشهد أنه رسول الله.
يخرج النبي مع صاحبه المقرب، الذي كان
أول الرجال الداخلين لدين الإسلام.. إنه أبو بكر الصديق يصاحب النبي فى هجرة إذا
كتب لها النجاح كتب التاريخ فصولا جديدة لرسالة سماوية وعد بها الله، ونجح نبيه
في نشرها.
يلحق التاريخ بالصديقين، ويرى دخولهما
الغار ويلحظ التاريخ بعينه الأخرى مجموعة من الرجال يمثلون قبائل مكة، و يسعون إلى
تقفى آثار الرجلين، فإن وصلت لهما سيوفهم.. يضيع دمهما بين القبائل، لكن الله مع
اثنين لن يخذلهما و سيدع للتاريخ يرى دينا جديدا، ينتشر من الجزيرة العربية إلى
سائر أنحاء العالم.
ينتصر النبي وصديقه لأنهما فى حمى
الله، ويفشل من أسودت قلوبهم وعميت بصيرتهم عن هدى الرحمن.. فأغلقت و هى لا تعرف
إلا دين آبائها.. ما هى إلا أصنام لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم.. بينما الرحمن
الواحد القهار حي لا يغيب عن الخلق فهو الباقي الذي لا يموت.. جل جلاله و عظمت
قدرته.
ينتشر الدين و يبني الرسول الأمين
مجتمعا يريد أساسه على العلم، فهو القائل: (( طلب العلم فريضة على كل مسلم و مسلمة
)) و يضيف الكريم : ((إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما، فلا بورك في طلوع
الشمس ذلك اليوم)).
بداية عهد جديد و دين سماوي يختم به
الرسالات السابقة، يدعمه بالعلم وهو يكذب افتراءات من يدعون أن الدين ضد العلم، وأن
العلم عدو للدين.
لا يقف الرسول فى بناء مجتمعه على
العلم فقط، بل يريد العدل لأمته بقوله: ((ما بعث الله من نبي و لا استخلف من
خليفة، إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالخير و تحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر
و تحضه عليه، والمعصوم من علّم الله)).
بكلمات صادقة يرشدنا النبي إلى أن
صلاح الحاكم فى بطانته التي يحكم معها بالعدل والخير، ولا يطلب الرسول عدلا من
الحاكم وحده بل يحذر: (( ما من أحد يكون من أمور هذه الأمة، فلم يعدل فيهم إلا
كبه الله في النار))، وتحذير النبى ليؤكد على أن المحكوم مسئول بالمثل عن عدل
حاكمه، ولهذا تأتي كلمات النبى قائلة: (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا
على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده)).
و يؤكد بقوة وصدق (( كما تكونون يولى
عليكم )).. إنه يطابق الأصل بالصورة، فالشعب ما هو إلا مرآة لحكومته.
إن الرسول يريد لأمته الابتعاد عن
المهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه.
ينادى بالرحمة لأمته: ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
ينادى بالنظافة فهي: من الإيمان.
هذا هو النبى الذى قال عنه الكاتب
الغربي ليونارد: (( إن كان رجل على هذه الأرض قد عرف الله، وإن كان رجل على هذه
الأرض قد أخلص له و فنى في خدمته بقصد شريف ودافع عظيم، فإن هذا الرجل هو بلا شك
محمد نبي العرب)).
و على صفحات كتاب «الخالدون
مائة أعظمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم».. نعرف لماذا تم وضع النبى
الكريم على قمة هؤلاء العظماء، فتجيب سطور الكتاب أنه توجد عدة أسباب من بينها ((أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم، قد كان دوره أخطر وأعظم في نشر الإسلام وتدعيمه، وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى عليه السلام في الديانة المسيحية، وعلى الرغم من أن عيسى عليه السلام هو المسئول عن مبادىء الأخلاق فى المسيحية،
غير أن القديس بولس هو الذي أرسى أصول الشريعة المسيحية، وهو أيضا المسئول عن
كتابة الكثير مما جاء فى كتب "العهد الجديد".
أما الرسول صلى الله عليه و سلم فهو
المسئول الأوحد عن إرساء قواعد الإسلام وأصول الشريعة والسلوك الاجتماعي، والأخلاق وأصول المعاملات بين الناس فى حياتهم الدينية و الدنيوية.
كما أن القرآن
الكريم قد نزل عليه وحده، و في القرآن الكريم وجد المسلمون كل ما يحتاجون إليه فى
دنياهم و آخرتهم )).
و يكمل الكتاب: ((على المستوى الديني كان أثر محمد صلى الله عليه وسلم قويا في تاريخ البشرية، وكذلك كان عيسى عليه
السلام )).
نعود لبداية ما كتبنا ليجيب علينا
رسولنا الكريم قرب وفاته بقوله: ((لقد اخترت لقاء ربي والجنة)).
اشتد المرض عليه و جلس عند السيدة
عائشة، وبعد أن أتم رسالته و قدم للمسلمين دينهم.. صعدت روحه الطاهرة للرفيق
الأعلى و عندما أطلع المسلمون على سيفه وجدوا هذه الكلمات المحفورة: ((أعف عمن
ظلمك، وصل من قطعك، وأحسن إلى من أساء إليك، وقل الحق ولو على نفسك)).
مات النبى و خرج لحن حزين بصوت أول من
تغادر الحياة لتلحق به.. من أقاربه.. إنها فاطمة، وقد سمع المسلمون ما يتردد على
لسانها:
أبتاه .. يا أبتاه
.. أبتاه !
أجاب ربا دعاه
.. يا أبتاه !
جنة الفردوس
مأواه .. يا أبتاه !
إلى جبريل ننعاه
.. يا أبتاه !
من ربه ما أدناه
.. يا أبتاه !